الرئيسة \  مشاركات  \  حول الوحدة الوطنية في ميراث النبوة

حول الوحدة الوطنية في ميراث النبوة

06.01.2024
د. محمد رفعت زنجير




حول الوحدة الوطنية في ميراث النبوة
د. محمد رفعت زنجير
في دراسة سابقة منشورة تتبعنا فيها حياة الأنبياء والرسل العظام، وجدناهم جميعا ضحايا الظلم والعدوان ، ووجدنا أقوامهم كانوا هم المعتدين، وكانوا أعداء للتعايش السلمي(لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا).
ونشير في هذا المقال إلى حرص الأنبياء والرسل عليهم السلام على السلم والأمن والوحدة الوطنية وحفظ النوع الإنساني، مستشهدين ببعض مواقفهم في هذا الصدد.
***
* فهذا نوح عليه السلام مثال الصبر، تحمل من قومه تكذيبهم وعنادهم قرابة ألف سنة، وهو صابر محتسب، ثم نجاه الله من أذى قومه هو ومن معه بسفينة ركبوها. ولم يدخلوا معهم في صراع مسلح داخلي، ولم يلوثوا أيديهم بدماء الكافرين.
* وهذا سيدنا إبراهيم يجادل في هلاك قوم لوط قال تعالى (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) (74)/ هود.
جاء في تفسير السعدي : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ)
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ } أي: ذو خلق حسن وسعة صدر، وعدم غضب، عند جهل الجاهلين.
{ أَوَّاهٌ } أي: متضرع إلى الله في جميع الأوقات، { مُنِيبٌ } أي: رجَّاع إلى الله بمعرفته ومحبته، والإقبال عليه, والإعراض عمن سواه، فلذلك كان يجادل عمن حتَّم الله بهلاكهم).
* وهذا سيدنا لوط عليه السلام يعيش مع قومه رغم ما يفعلونه من تجاوزات، ويأبون إلا أن يخرجوه لأنه لا يشاركهم بفعل الخبائث ويتطهر، قال تعالى: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (56)/ النمل.
* وهذا سيدنا شعيب عليه السلام متشبث بالتعايش مع قومه الذين كانوا عنصريين متزمتين لا يقبلون التعايش مع من خالفهم، قال تعالى: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) (88)/ الأعراف.
*وهذا سيدنا هارون عليه السلام يخشى تفريق قومه (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (94)/ طه.
*وهذا سيدنا موسى عليه السلام ترك السامري يعيش وفق مبدأ (لا مساس). قال تعالى: (قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ) (97)/طه.
وقال سيدنا موسى معاتبا لقومه الذين آذوه: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (5)/ الصف.
* وهذا سيدنا عيسى عليه السلام يأتي بالمعجزات الباهرة من شفاء المرضى وإحياء الموتى بإذن الله وإخبار بالغيوب، ولم يلق من قومه إلا العنت والتكذيب، قال تعالى:
(وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) (6)/ الصف.
وحين هموا أن يصلبوه رفعه الله إليه.، ولم يقاوم بسيف ولا رمح.
* وسيدنا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام كانا من الأنبياء المظلومين الشهداء عليهم السلام جميعا.
*وهذا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يرفع سيفا بمكة المكرمة بل تعايش مع قومه وفق مبدأ (لكم دينكم ولي دين).
وهو صلى الله عليه وسلم لم يترك مكة مهاجرا منها إلا مكرها، عاش مع المشركين ولم يقاتلهم، وكانت الكعبة مليئة بالأصنام فلم يكسرها آنذاك حتى لا تكون فتنة، وقال مخاطبا لمكة المكرمة كما جاء في الترمذي عن عبد الله بن عدي بن حمراء: "واللهِ، إنَّكِ لخَيرُ أرضِ اللهِ، وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ مِنكِ ما خرجْتُ". فخرج منها مضطرا بعد استحالة التعايش مع أهلها الذين قرروا تصفيته جسديا، ولم يخرج منها رغبة بما سواها.
*وكذلك حين استقر صلوات الله وسلامه عليه بالمدينة وضع وثيقة المدينة للتعايش بين مكونات أهلها، ولم يقتل المنافقين الذين آذوه وآذوا أصحابه بالمدينة المنورة؛ وذلك لئلا يتحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه.
*وفي صلح الحديبية: قَالَ : " يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ ..!". ثُمَّ قالَ ِ: " وَالله لَا تَدْعُونِي قريش الْيَوْمَ إلَى خُطّةٍ يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةَ الرّحِمِ إلّا أَعْطَيْتهمْ إيّاهَا". وصَدَقَ صلى الله عليه وسلم بِمَا وَعدَ فَكَان صلح الحديبية، الذي وَصَفهُ رَبُّ النَّاسِ تَبَارَكتَ أسْمَاؤه بِالفَتْحِ المُبِينِ في قَولِه تَعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)
*وعندما عاد فاتحا إلى مكة قال "اذهبوا فأنتم الطلقاء". فلا حقد ولا انتقام، بل تعايش وأمن وسلام من جديد تحت راية الإسلام.
* ولم يكن الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام في تاريخهم كله إلا دعاة وحدة وأمن وتعايش سلمي، وقد لاقوا من ألوان الأذى والعنت من أقوامهم ما لاقوا، ولم يكن هذا ليصرفهم عن دعوتهم ومنهجهم في الوحدة والتعايش، قال تعالى متحدثا عن الاستئصال والتطهير لدى الكافرين حتى صار لديهم قتل الأنبياء وأتباعهم الأحرار كأنه عادة تواصوا بها: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (21)/ آل عمران.
***
المسلم الحق مع الوحدة الوطنية وهو الوطني الحق المخلص لوطنه وبلاده فلا ينبغي لغيره أن يبيعه وطنيات أو يزايد عليه في هذا الموضوع.
***
الأنبياء والرسل عليهم السلام لم يقتلوا أحدا ظلما، ولم يكونوا سفاحين، ولم يمارسوا القتل إلا في أقل الحالات وأصعب اللحظات وعلى أضيق نطاق ... وكل ما علمناه عنهم في هذا الصدد أن:
*موسى عليه السلام قتل شخصا من القبط وكان ذلك خطأ ضمن مشاجرة، وقد ندم وتاب إلى الله بعد ذلك، وتاب الله عليه.
*داود عليه السلام قتل جالوت، وكان داود جنديا نظاميا في جيش طالوت.. فلم يكن عملا فرديا، ولا اغتيالا..
*النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما في السيرة قتل أبي بن خلف فقط دفاعا عن نفسه حين هاجمه أبي بن خلف يريد قتله.
***
من أين صارت دعوات الإصلاح ملوثة بهذه الدماء ... وكيف تحولت الأوطان إلى بركة من الدموع والدماء وكومة من الرماد؟.
*إن جميع من استشهدوا في عهد النبوة لا يتجاوز عددهم (240) صحابيا بكل الأحوال...
وجميع من قتلوا من الطرفين: المسلمين والمشركين لا يتجاوزون الألف ونيف بكل الأحوال.. وذلك ضمن حوالي مئة غزوة وسرية في عهد النبوة.
أكبر عملية تحول وتغيير في تاريخ العرب أولا، والعالم بعد ذلك، لم يقع فيها من القتلى خلال فترة الصراع بين مكة والمدينة كلها إلا بمقدار ما يقع في معركة واحدة فقط في عالمنا المعاصر... وهذا يعني أن دين الله هو دين الرحمة والسلمية، وهو لا يلجأ إلى السيف إلا دفعا واضرارا، لا رغبة واختيارا.
*جاء في موقع صيد الفوائد في مقال: (هذا نبينا صلى الله عليه وسلم) لمحمد العنزي، ما يأتي:
(ذكر أهل العلم عدد غزوات النبي ﷺ فقالوا خمس وعشرين غزوة وسبعين سرية، هذه الغزوات والسرايا التي شارك فيها حتى أورد الحافظ في الفتح في آخر كتاب المغازي الخلاف، ثم رجح أنه أكثر من مائة غزوة وسرية، وساق الأدلة والبراهين على ذلك، وليس المقام مقام بسط، المطلوب أن نعرف عددها، وهي أكثر من مائة غزوة وسرية على مدى عشر سنوات والسؤال الذي يفرض نفسه: كم قتل النبي ﷺ بيده الشريفة في هذه الغزوات والسرايا المائة، التي لم تقم بعضها إلا من أجل قتله وقتاله ﷺ ربما ستندهش -أيها القارئ الكريم- بالرقم الصعب: (واحد).
نعم رجل واحد فقط، ولم يرد النبي ﷺ قتله، أيضا بل هو من تعرّض للنبي ﷺ، ويصيح بالناس في المعركة في أحد لما انكشف المسلمون يوم أحد، قام أبي بن خلف وهو يصيح بأعلى صوته شاهراً سلاحه يقول أين محمد ؟ لا نجوت إن نجا، فاستأذن أصحاب النبي رسول الله ﷺ في أن يخر عليه أحدهم فيقتله، فقال: دعوه، فلما دنا تناول رسول الله ﷺ الحربة فطعنه بيده الشريفة فكانت سبب موته).
ويضيف؛
(وتعالوا لنعرف عدد القتلى في غزوات النبي وسراياه من المسلمين والمشركين، فقد أثبت بعضهم أن العدد يتراوح من (625) إلى (1018) قتيل كأقصى حد متصور من كلا الطرفين. وبعضهم يرى أن عدد القتلى من المسلمين (236) رجل قتلوا في معارك على مدار عشر سنوات، وأما عدد المشركين (625) ليصبح مجموع العددين (861 ).).
*وجاء في موقع إسلام ويب حول عدد الشهداء: (ولعل الأقرب أن عددهم تسعة وثلاثون ومائتان، فإذا حذفنا منهم بعث الرجيع ومؤتة صار عددهم تسعة وخمسين ومائة).
***
لقد كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى رسالته الدعوية رسالة إنسانية ودعوة إلى الوحدة الوطنية. وذلك بوصفه معلما تربويا ومرشدا إنسانيا وقائد دولة، ولذلك كان راعيا للأقليات، مرجعا لكل مواطني دولة المدينة، سواء كان مسلما، أو غيره، ويؤكد ذلك أننا نرى في سيرته أن:
أحد خدامه كان فتى يهوديا.
وقد شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شرابا من يهودي ودعا له.
وأكل من شاة أهدتها يهودية.
وتزوج من أهل الكتاب، صفية من اليهود، ومارية من النصارى،
ونهى عن إيذائهم.
وأنزل أهل الكتاب في مسجده.
وقبل هداياهم.
فداه أبي وأمي من نبي رسول، ومرب ومعلم وقائد دولة.
وقد بادله بعضهم هذا الشعور الوطني، وقاتل بعضهم معه دفاعا عن الوطن: المدينة، وهذه قصة مخيريق إحدى القصص التي تؤكد ذلك:
قال ابن إسحاق : وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق ، وكان أحد بني ثعلبة بن الفطيون ، قال : لما كان يوم أحد ، قال : يا معشر يهود ، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق ، قالوا : إن اليوم يوم السبت ، قال : لا سبت لكم . فأخذ سيفه وعدته ، وقال : إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء ، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاتل معه حتى قتل ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - مخيريق خير يهود.
***
يجب أن يفكر الدعاة إلى الله مليا بحرمة الأوطان والدماء والأعراض والأموال التي قد تدمر كلها في صراعهم مع الطغاة.
يجب أن تكون الأوطان ذات حرمة، والوحدة الوطنية محل احترام.
وإذا كان أكثر الطغاة لا يقيمون حرمة لدم أو وطن في سبيل مصالحهم وبقائهم في السلطة... فليكن المسلم هو حامي الوحدة الوطنية، وحارس الأمن والأخلاق والقيم في هذا العالم، متمسكا بالسلم والأمن والوحدة الوطنيةوالتعايش الحضاري.
ولا ينبغي له أن ينغمس في الفتن والحروب الأهلية والدم إذا انغمس بها غيره، مهما كانت الأسباب والدوافع. لأنه حامل مسك .. وحامل المسك لا ينبغي له أن يكون كنافخ الكير، وليس حامل إرث الأنبياء والرسل عليهم السلام، كوارث الفراعنة والظالمين.
إن مكان السيف الوحيد ينبغي أن يكون في حماية الأوطان من المحتلين والمعتدين والغرباء، أما داخل الوطن فالكلمة الفصل فيه هي للعقل والحكمة والشورى والعدالة.
يجب أن تكون الوحدة الوطنية محل احترام وتقدير من ورثة الأنبياء والمرسلين جميعا عليهم الصلاة والسلام، فهم أتباع بناة الفكر والأخلاق والتعايش والتناصح والتكافل والقيم الحضارية والحريات في هذا العالم.