الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حكاية رجل الرعب 'عبد الحميد السراج'

حكاية رجل الرعب 'عبد الحميد السراج'

10.10.2013
يارا بدر

نجاته من العقاب فتحت الباب واسعاً لانتهاكات كرامة الإنسان في سورية:...حكاية رجل الرعب 'عبد الحميد السراج'

القدس العربي
9/10/2013
ماذا نكتب عنهم، لماذا نهتم بهم؟ لماذا تُصْنَع حول جرائمهم وهوسهم الأفلام والكتب والدراسات؟ ميلوسوفيتش، هتلر، معمر القذافي، صدام حسين، عبد الحميد السراج؟ هل هي محاولات لفهم الوحشية البشرية، كما تجلت على يد هؤلاء السفاحين وسواهم ممن نقشوا في التاريخ حروف أسمائهم بدم ضحاياهم؟ أم هي محاولات لفهم الأسباب التي تدفع بتلك الصور والفعاليات البشرية، أن تُسقِطْ عن ذاتها كل مُقاربات الإنسانية الفلسفية والأخلاقية لتكون أول الحيوانات في دونيتها، في تحويلها العذاب الإنساني إلى سيرة حياة وممارسة يومية وشكل وجودي، وبحجة حماية الأمن الوطني. بالمصالح الخاصة لهم المقرونة بسيادتهم سياسياً وأمنياً يبررون لأنفسهم امتهان الكرامة الإنسانية إلى مراحل لا يمكن فهمها سوى باعتبارها جنوناً محضاً يتحدى قدرة العلوم الإنسانية على التفسير.
فمن هو عبد الحميد السراج؟ بالنسبة لي هو شبح، هو اسم لا يمكن أن يُذكر إلا ويلفه السواد.. إذ كانت أول حكاية رعب سمعتها عن المعتقلات السورية، بطلها الوحشي هو عبد الحميد السراج، وعنوانها (أبادهُ بالأسيد).
هذه الحكاية ذاتها تناقلها مؤخراً ناشطون سوريون على صفحات الموقع الأزرق، للتعريف بالسراج الذي وافته المنية – أخيراً- بتاريخ 23 أيلول/سبتمبر 2013، والحكاية المنقولة بحسب ما روى غسان زكريا، نسيب السراج، في كتابه ‘السلطان الأحمر’:
(عندما اعتقل الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو، في 25/6/1959، اقتيد فوراً إلى احد المراكز العائدة للمكتب الثاني في الطلياني، الذي كان يشرف عليه سامي جمعة، وهو أحد الضباط المقربين جداً من عبد الحميد السراج، يعاونه ضابط آخر يدعى عبد الوهاب الخطيب الذي قال لفرج بعد اعتقاله بقليل: ‘إنك لصيد ثمين’، ثم انهال عليه بالأسئلة. إلا أن فرج الله الحلو التزم الصمت رافضاً الإجابة، فضُرب بعصا حتى تكسرت، ثم صُعق بالكهرباء في قدميه. أما سامي جمعة فقد قام بوضع سلك الكهرباء في المآخذ، بينما أمسك عبد الوهاب الخطيب الطرف الثاني من السلك ووضعه في إبهامي قدمي فرج.. ثم نفخ بطنه بالهواء بمنفاخ سيارة، وقفز عليه. وكان ‘رفيق رضا’ أحد الخونة الذي وشى به يأتي بعد انتهاء فترة التعذيب ليناقش فرج في أفكاره السياسية والعقائدية، فما كان من ‘فرج’ إلا أن بصق في وجهه واتهمه بالخيانة والعمالة للسراج.
واستمروا في تعذيبه إلى أن فارق الحياة صباح 26/6/ 1959 فتم وضعه تحت الدرج، ثم وضع في كيس نايلون بعد أن تم تقطيعه، ودفن في مزرعة سامي جمعة، ونتيجة لارتفاع وتيرة التهريب من لبنان كانت سيارات التهريب اللبنانية تمر بجوار المزرعة، خاصة عند المساء، فظن الجلادون أن الحزب الشيوعي اللبناني ربما يكون قد اكتشف مكان دفن قائده فرج الله، فما كان منهم إلا أن قرروا فتح القبر وإخراج جثته، وتم تسليمها للمدعو وجيه أنطاكي الذي كان يعمل معاونا لعبد الوهاب الخطيب، ليتخلص منها بأسرع وقت، خوفاً من اكتشاف الجريمة، وقد اشترى المدعو وجيه لهذه الغاية ‘بانيو’ حمام ووضع فيه جثة فرج الله، ثم سكب عليها مادة الأسيد إلى أن ذابت تماماً، ثم قام بعد ذلك بإخبار معلمه عبد الوهاب الخطيب بأن الأمر قد تم، فما كان من هذا الأخير إلا أن اتصل بشخص – يعتقد أنه كان عبد الحميد السراج نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة عن الإقليم السوري- وأخبره أنه قد ذاب واختلط في مياه نهر بردى).
ولد عبد الحميد السراج في محافظة حماة وسط سورية عام 1925 في يوم من أيام شهر سبتمبر. تخرج السراج من الكلية الحربية في حمص. ابرز انجازاته كانت سنة 1956 مع إفشاله محاولة انقلاب عرفت بـ’المؤامرة العراقية’ للإطاحة بالمجموعة الناصرية في سورية، التي كافأه عليها الرئيس المصري جمال عبد الناصر لاحقاً بأن عينه وزيراً للداخلية زمن الوحدة في بداية 1958.
عمل السراج وفق منهج البطش الأمني، وامتدت سياسته الأمنية في فحشها من سورية إلى لبنان ومصر، وقبض ثمنها بأن نال منصب نائب رئيس الجمهورية في دولة الوحدة السورية – المصرية، التي يرى البعض أن استبداده الأمني ذاته شكل أحد أسباب الانفصال. عند الانفصال ولأسباب عديدة، اعتقل السراج لبضعة أيام في سجن المزة – دمشق، انتهت بعملية تهريبه التي يحيط بها غموض شديد، ونجحت في إيصاله إلى مصر التي كانت منفاه إلى أن غطاه التراب.
في مناسبة وفاته ذكرت مصادر إعلامية أن السراج واجه 400 دعوى قضائية، لم نستطع الحصول على معلومات أكيدة بشأنها، إلا أنه وبحسب القانون الدولي، فإن جرائم السراج هي جرائم ضد الإنسانية، بحسب تعريف ‘المحكمة الجنائية الدولية لأنها تشمل التعذيب وفق المادة (7/ و-1)، بالإضافة إلى القتل العمد (المادة 7/ أ-1). وكذلك بحسب ميثاق ‘نورمبرغ’ /1945 الذي عرف الجرائم بحق الإنسانية في المادة (6) بأن: (الجرائم ضد الإنسانية هي: القتل، التصفية، الحرق، الترحيل، وأفعال لا إنسانية أخرى ارتكبت ضد السكان المدنيين، قبل أو أثناء الحرب، أو الاضطهاد القائم على أسس سياسية أو عرقية أو دينية تنفيذاً لأية جريمة).
إن تعذيب فرج الله الحلو وتقطيع جثمانه وإبادته بالأسيد، خيال وحشي يتجاوز كل ما يمكن تقديمه من مبررات سياسية لعملية خطف وتعذيب، وحتى اغتيال صوت معارض سياسي. وتطول قائمة جرائم السراج، إذ يوصم السراج بعهدٍ كان فاتحةً لعصور الظلمات الحديثة في العالم العربي، تكميم الأفواه، قمع الحريات، اعتقال آلاف المعارضين السياسيين من الشيوعيين إلى الأخوان المُسلمين، حتى أن اختراعي ‘منع السفر’ و’إذن السفر’ بدآ في عهده، إذ وبالعودة إلى كتاب زكريا نقرأ: (إن السراج اصدر تعليمات بعدم السماح لأي مواطن بمغادرة الأراضي السورية إلا بعد الحصول على تأشيرة خروج، أو إذن سفر، فحول البلاد الى سجن كبير).
إن الاضطهاد الوحشي الذي مارسه السراج على آلاف المدنيين، من معارضين سياسيين، إعلاميين، شعراء منهم أدونيس والماغوط، وسواهما، يتوافق بالضرورة مع تعريف نورمبرغ للجرائم بحق الإنسانية.
إلا أن عدم محاكمة السراج محلياً في الدول التي ارتكب فيها تلك الجرائم، أو دولياً، هو تحد سافر للقانون الإنساني والكرامة الإنسانية. إن نجاة السراج من العقاب فتح الباب واسعاً أمام حكم البَطش والفحش الأمني المُرتبط بالديكتاتوريات العسكرية، التي بدأت خجولة مع حسني الزعيم واستمرت في سورية لتصل ذروتها مع آل الأسد.
تقول الكاتبة ديان إف. أورينتاتشر في مقالها ‘الإبادة’: (يُروى أن هتلر أشتهر بتطمينه المُشككين بين صفوفه قائلاً: ‘في كل الأحوال، من يتحدث اليوم عن الأرمن؟’).
أعتقد أن منطق القراءة في مقولة الزعيم النازي هو الخطير، خطير انطلاقاً من صحته، فاليوم من يتحدث عن جرائم السراج؟ ومن تحدث البارحة؟ إذن لن يتحدثوا عن جرائم الآخرين غداً.
إذ يمكنك أن تخطف مدنياً، تعذبه حتى الموت، تقطعه، وتذيبه بالأسيد، وتذهب لتكمل حياتك كأب وزوج، ومواطن عادي يقضي سني عمره بهدوء وسكينة وأفراح صغيرة. أجل لقد نعَم السراج بحياته الهانئة، ولم يطله ميزان المحاكمة القضائية، إلا أن كل كلمة تكتب في سعي للبحث عن حقيقة ما جرى، هو أبسط واضعف أشكال محاولة إنصاف ضحاياه وذكراهم.