الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حاشية في ذكرى انقلاب البعث الأول

حاشية في ذكرى انقلاب البعث الأول

14.02.2019
عبد اللطيف السعدون


العربي الجديد
الاربعاء 13/2/2019
في عصريةٍ تشرينيةٍ موحشةٍ، تجاوزتها عقود خمسة، كنت في مبنى فرع بغداد لحزب البعث في الأعظمية، أسجل حديثا للإذاعة مع الأمين العام للحزب ميشيل عفلق، الذي قدم إلى العراق لفض خلافٍ نشب بين الرفاق العراقيين، وكان قد فرغ للتو من اجتماع عقده مع قيادة الفرع. لم يقل "القائد المؤسس" أكثر من بضع كلماتٍ عن ثقته في قدرة الحزب على تجاوز العقبات التي تواجهه، لكنني لمحت مسحة تشاؤمٍ على وجهه. واستوقفتني واقعة صغيرة حدثت أمامي، وأنا أتهيأ لغلق جهاز التسجيل والخروج، فقد رن جهاز الهاتف ورفع السماعة أحد الحضور، ليسلمها إلى عفلق الذي أجاب على المكالمة باقتضاب، ثم التفت إلى الرئيس أمين الحافظ، ليخبره بأن الرفيق صالح عمّاش (عضو القيادة القطرية) يدعوهم إلى العشاء تلك الليلة. وقبل أن يعلق الحافظ، صرخ عضو قيادة الفرع، نجاد الصافي، بوجه عفلق: "لا.. لا يمكن أن تذهبوا إلى عمّاش". كان عمّاش محسوبا على جناح العسكريين المعترضين على سلوك "الحرس القومي". خرجت من غرفة الاجتماع، وأنا أرصد رد فعل عفلق الذي لم ينطق بكلمة، لكن ملامحه كانت توحي بالغضب والخذلان. في حينها ارتسمت أمامي صورة تلميذٍ يصرخ في وجه معلمه الذي لم يدرّبه على قواعد التعامل مع معلميه. كما خطر لي آنذاك، وأنا أسمع ما كان يدور أمامي من نقاشات، أن "الرفاق" العراقيين لم يكونوا ليُتقنوا فن إدارة الأزمات، ربما لأنهم لم يخوضوا نضالا علنيا بما يكفي، إنما نشأوا وتعلموا (الثورة) في الأقبية والبيوت السرّية والسجون، وأقنعتهم فتوتهم وحماستهم بأن هذا هو فقط ما يحتاجونه، لكي يحكموا بلدا يضم آنذاك أكثر من عشرة ملايين، كل فرد منهم يمكنه أن يشكّل وحده حزبا سرّيا.
بعد يوم أو يومين من هذه الواقعة، سقط انقلاب "البعث" الأول الذي يتذكّره العراقيون هذه الأيام، وما زالوا ينبشون تاريخه، يختلفون على معانيه ودلالاته، ويتبادلون الشتائم والاتهامات 
"دلالة العنفوان والجرأة لدى البعثيين حملت معها دلالة القصور وعدم النضج أيضاً" حول ممارساته، ويريد بعضهم محاكمته بمنطقٍ غير منطق زمانه، أو ينظرون إليه بأدواتٍ لم تكن حاضرةً في ذلك الزمان، أو يقيمونه بمعزلٍ عن عوامل لم تكن مرصودةً في حينه. سخر بعضُهم من إطلاق الحزب تسمية "عروس الثورات" على الانقلاب، مع أنه كانت لتلك التسمية دلالتها في ذلك الزمان، إذ انتزع البعثيون السلطة من عبد الكريم قاسم، وكان عددهم في كل العراق لا يتجاوز الثمانمئة، وأعمار معظمهم لا تتجاوز الثلاثين، وعمر الحزب في العراق أقل من عقدين. وعلى سبيل المقارنة فقط، قدر عدد الشيوعيين العراقيين في حينه بمليون قابل للزيادة، لكنهم لم يكونوا ليمتلكوا اندفاع البعثيين الشباب، وتوقهم إلى المغامرة، مع أنهم أصحاب تاريخ يمتد عقودا وخبرة عريضة في السيطرة على الشارع والتحكّم به.
دلالة العنفوان والجرأة لدى البعثيين حملت معها دلالة القصور وعدم النضج أيضا، ربما الدلالة الأخيرة هي التي أجهضت (الثورة) الموعودة، ووئدت الآمال التي كانت معلقةً عليها، ومثلها مثل جمهورية عبد الكريم قاسم التي لم تعمر سوى أربع سنوات ونصف السنة، كانت غارقة في العواصف، مليئة بالمفارقات، أنهت تلك العواصف والمفارقات دور القوى المدنية التي كانت عاملا حاسما في نجاح انقلاب/ ثورة الرابع عشر من تموز/ يوليو الذي سحق النظام الملكي، وأقام الجمهورية الأولى، كما نقلت الفعل إلى العسكريتاريا المؤطّرة في تنظيم "الضباط الأحرار" الذين سرعان ما دخلوا في مماحكاتٍ في ما بينهم، وبينهم وبين رجال الأحزاب كانت نتيجتُها وضع القرار عمليا بيد عبد الكريم قاسم الذي تحوّل "زعيما أوحد"، بحسب اللقب الذي أعطاه له أنصاره.
تظل هناك ملاحظتان، يمكن أن تضمهما هذه الحاشية: الأولى أن انقلاب "البعث" الأول لم يقدّر له أن ينجز، ربما بسبب قصر عمره الذي لم يتجاوز تسعة أشهر، أيا من الأهداف التي روّجها، إنما وجه كل اهتمامه إلى اجتثاث خصومه من الشيوعيين واليساريين، على النحو الذي نعرف. الثانية أن تجربة حكم الانقلابيين حظيت بعد سقوطها بمراجعات وانتقادات عديدة، حتى من الذين قادوا الانقلاب، وتسلموا السلطة، بعد نجاحه، إلى درجة تخوين بعضهم بعضهم الآخر، وآخر ذلك إشارة صدام حسين الذي شارك في محاولة اغتيال قاسم، والذي عاد بعد أكثر من عقدين، ليصفه بأنه "شخصية وطنية لم نعطها فرصة للحكم"، وأننا (في معاداة قاسم) لم نكن ناضجين، .. وقد صرنا نعرف الآن عنه أشياء لم نكن نعرفها".