جنوب سورية في مهبّ الإرباك
28.06.2025
عمر الشيخ
جنوب سورية في مهبّ الإرباك
عمر الشيخ
العربي الجديد
الخميس 26-6-2025
تبدو اللحظة السورية الراهنة مُعلّقة في منطقة متوترة أمنياً. سقط نظام الأسد، لكن الدولة لم تستقرّ تماماً. رئيس انتقالي يحظى بقبولٍ حذر خارجياً أكثر من داخلياً. في العمق، جمهور يتنقّل بين الأمل والقلق، وخصوم يراقبون المشهد بحثاً عن ثغرة. في جنوب البلاد، تتقاطع الجغرافيا مع الجيوب السياسية؛ القنيطرة ودرعا والسويداء مناطق حسّاسة، هشّة أمنياً، وغالباً ما تُستثمر بوصفها مساحات اختبار. في هذا السياق، ظهر فجأة فصيل مسلّح يُطلق على نفسه "كتائب الشهيد محمد الضيف"، ويتبنّى إطلاق مقذوفاتٍ على أراضٍ تحتلها إسرائيل من الأراضي السورية، في حادثة تُعيد إنتاج مشهد مألوف: سلاحٌ غامض، فصيلٌ منفلت، ضربةٌ إسرائيلية، ثم إرباك رسمي معتاد.
اللافت أن التوقيت تزامن مع خطاب تصعيدي للمرشد الإيراني، علي خامنئي، عبر منصة إكس، يهدّد فيه الحكومات العربية التي تقترب من إسرائيل. ويعيد هذا التشابك بين الفعل المسلّح والكلام الرمزي إحياء أسلوب إيراني لطالما اعتمد على "استعارة الرموز" وتدوير الأجندات العقائدية لخدمة مصالح النفوذ. قد لا يكون ما يجري في الجنوب منعزلاً، بل قد يكون جزءاً من اختبار مفتوح للدولة السورية الناشئة، وسط محاولاتٍ لتعطيل السيادة الجديدة وتسميم المناخ الانتقالي. من هنا تبدأ القراءة.
في الفترات الانتقالية، حين تكون الدولة مُنشغلة بإعادة بناء مؤسّساتها، تتسلّل قوى أخرى إلى المشهد، مستفيدةً من غياب السردية الوطنية الجامعة
في الفترات الانتقالية، حين تكون الدولة مُنشغلة بإعادة بناء مؤسّساتها، تتسلّل قوى أخرى إلى المشهد، مستفيدةً من غياب السردية الوطنية الجامعة. إيران ليست غريبة عن هذا التوقيت، بل تنشط حين تتعدّد الخطابات وتتشوش الحدود بين العدو والحليف. إيران تتقدّم حين تلمح فراغاً، لا حين تمتلك اليد العليا. وهكذا، يصبح الإحباط الداخلي لدى الناس فرصة للتسلل، لا عائقاً أمامه.
في المقابل، تواصل إسرائيل تموضعها العسكري والنفسي معاً: طيران حربي في السماء يفتح متى يريد جحيم الرسائل السياسية، ويقصف ما يشاء في العمق السوري، فيما يبقى الخوف من حربٍ قادمةٍ معلقاً في الهواء، بين تعبٍ موروث من النظام الساقط وخشيةٍ من أن تنزلق الجمهورية الجديدة إلى موقع العاجز أو المهادِن، في لحظة هي أحوج ما تكون فيها لإثبات وعيها السيادي.
يعاني جنوب سورية اليوم من هشاشة أمنية وسياسية. لم يفرض جهاز الدولة بعد قبضته الكاملة، والفصائل التي لم تُدمج تملأ الفراغ. تصلح هذه البيئة تماماً لمشروع إيراني يعرف كيف يصنع من "المقاومة" واجهة، ومن "تحرير فلسطين" غطاء لحركة نفوذ جديدة. لا يبدو ظهور "كتائب الشهيد محمد الضيف" خطوة دفاعية عن غزّة، بل استثمار لحظي في المعنى. مجموعة بلا هوية تنظيمية واضحة، تتبنّى هجوماً ضدّ إسرائيل وتختفي خلف قنوات تليغرام. الضربة السياسية تُوجَّه إلى دمشق، لا إلى تل أبيب. لم يعُد هذا التوظيف غريباً. في العراق، ظهرت "كتائب حزب الله" لتكسر الدولة من داخلها. في لبنان، استُخدم شعار "الممانعة" لتغطية شبكة مصالح إقليمية. وفي اليمن، رُفعت رايات المقاومة، بينما كانت المؤسّسات تُفكك من الداخل. والجنوب السوري، اليوم، يقف على شفيرة هاوية الخطّ نفسه.
اليوم، نصف المعركة إعلام، والنصف الآخر وعي، وما لم يتكاملا، فلن تصمد الدولة أمام تشويش الشعارات
ما يواجه الرئيس السوري أحمد الشرع وحكومته الانتقالية أبعد من التهديد العسكري، إنه محاولة لتقويض رمزية الدولة من خلال أدوات تنكّرية، تتكلم بلسان القضية الفلسطينية، لكنها تستهدف الداخل السوري مباشرة. قد يكون ما حدث في الجنوب أول فصول لعبة طويلة. تديرها إيران، التي تراجع نفوذها الرسمي في دمشق، والتي تبدو في طور بناء أدوات بديلة: أذرع تُقاتل بالنيابة، وتُربك بالنيابة أيضاً. والخيارات أمام هذا المشروع متعدّدة: أولاً، تضخيم "كتائب الضيف" وتوسيع خطابها لتبدو جزءاً من محور إقليمي، ما يمنح إيران ذريعة معنوية للتدخل في الأمن السوري من بوابة حماية "الجبهة الجنوبية". هذا يفتح الباب أمام نسخة سورية من "أنصار الله" في اليمن. ثانياً، تشغيل الفصيل أداة تخريب سياسي، لدفع إسرائيل إلى التصعيد، وتوريط الحكومة الانتقالية في أزمة دولية، بغرض زعزعة موقع الشرع وتفريغ المرحلة الانتقالية من جدواها. ثالثاً، استخدام الصاروخ رسالة. لا المقذوف وحده يهم، بل ردّ الفعل. إن استجابت الحكومة ببطء، بدت عاجزة؛ وإن ردّت بصرامة، قيل إنها غير متزنة. وبين الردّين، تفتح طهران لنفسها نافذة مناورة رمزية، لا تُغلق بسهولة. هذه السيناريوهات ليست معزولة. كلّها تصبّ في هدف واحد: إعادة تشكيل دور إيران عبر خطوط النار والرموز المُقنّعة. تماماً كما فعلت في بيروت وبغداد وصنعاء.
تبدو طهران مدركة أن الحرب لم تعد مجدية. لذلك، تلجأ إلى ما تبقّى: الرموز، الفصائل، الخطابات. تحرّك ذلك كله على أطراف المشهد، لكن الهدف في القلب. وما لم تكن القيادة الانتقالية السورية واعية لهذا النوع من الحروب، قد تجد نفسها تُفاوض على شرعيتها مع جماعاتٍ لا تعترف أصلاً بفكرة الدولة. الجنوب السوري لا يتحمّل تأجيلاً في الحسم. ليس فقط من باب الأمن، بل لحماية الخيال السياسي السوري من التآكل، فحين يُترك الحقل مفتوحاً، تأتي قوى عابرة للحدود، لتزرع راياتها وأوهامها وأقنعتها.
وسط ضجيج السياسة وهدير التصريحات، يبقى الجنوب السوري خارج العدسة. تكاد محافظة السويداء تكون خارج سلطة الدولة، والقنيطرة تشهد توغّلات متكرّرة من إسرائيل التي تواصل تموضعها الاستراتيجي فوق جبل الشيخ، مكشوفة العين على دمشق وما حولها بلا عائق. ولا يجد هذا الواقع الحرج صداه الكافي في الإعلام المحلي كما نرى، والذي لا يزال غائباً ميدانياً، لا يفتح الهواء حيث تتسلل الفوضى وتتكوّن الأخطار.
الحاجة إلى رسائل إعلامية يومية عن الجنوب السوري ضرورةً لا تحتمل التأجيل
في هذا الصمت، تُهمل الجغرافيا، ويُفرّغ المعنى، ويُفسّر المشهد من الخارج. ويغدو غياب الإعلام فرصة لتغذية حرب نفسية ناعمة، تتقدّم فيها الإشاعات على البيانات، والتضخيم على الحقائق، حتى تتعمّق هشاشة الإدراك الجمعي، وتصبح الفوضى احتمالاً يومياً مُعاداً. اليوم، نصف المعركة إعلام، والنصف الآخر وعي، وما لم يتكاملا، فلن تصمد الدولة أمام تشويش الشعارات.
من هنا، تصبح الحاجة إلى رسائل إعلامية يومية عن الجنوب ضرورةً لا تحتمل التأجيل. أن يكون أبناء تلك القرى ممثلين بأصواتهم، أن تظهر الكاميرا عند خطوط التماس، أن يُرى الجنوب لا بوصفه موقع تهديد، بل جذرا سياديا. لا يكفي التنديد بالفصائل المجهولة؛ بل يجب أن يُرى البديل، ويُسمع، ويُستعاد. فالإعلام، حين يتحدث باسم الناس، يمنحهم المعلومة، يعيد لهم الانتماء. وعندما يغيب، يملأ غيره الفراغ ويصوغ المعنى كما يشاء.
لهذا، يبدأ إغلاق المساحة الرمزية أمام التسلّل الإيراني بكلمة واضحة: لا مقاومة تنطلق من أرضٍ تهدّد من عليها. لا حليف يبرّر الفوضى باسم القضية. لم تنتهِ المعركة بسقوط النظام، بل بدأت بوجوهٍ جديدة. والدولة لا يُهدّدها القمع وحده، إنما أيضاً الذين يرتدون قناعها ليخنقوها من الداخل. وعندما تستعيد الحكومة في دمشق قوتها دولياً ومحلياً، وعندما تستعيد إعلامها وتعزّز وعي شعبها، ربما تستطيع أن تفاوض العدو أو تقاتله، وفي كل الأحوال، لا بد أن تفرض الوقائع التي يريدها السوريون وحدهم، لا أولئك الذين يصدّرون خرابهم عبر حدودنا، مستغلّين لحظات الإحباط وعربدة العدو.