الرئيسة \  دراسات  \  ثقافة حديثية ميسرة – 10

ثقافة حديثية ميسرة – 10

12.04.2022
زهير سالم



زهير سالم*

علم الرجال...
نشأ في غضون القرون الثلاثة التي استقر فيها علم الحديث الشريف رواية وتدوينا وتصنيفا، علم خاص بهذه الأمة المسلمة هو "علم الرجال" . الذي هو حجرُ الأساس في علم الإسناد المنبثق عنه، والذي شكل سدا منيعا في وجه أصحاب الخفة أو الأهواء أو الزنادقة، الذين كانوا في تلك الفترة الزمنية قليلا، كما شكل سدا في محاولات اختراق سور الحديث الشريف.
في الحديث عن الفترة الزمنية التي تحددنا فيها مطلع القرن الثالث للهجرة، أي حوالي 250 عاما من وفاة الرسول الكريم والتذكير بالسقف الزمني لعملية التدوين دائما مهم . لا بد أن نذكر كمدخل "لعلم الرجال" هذا، حديثَ الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تناقله أصحاب الصحاح والسنن: " خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "
ونتساءل مثل ما تساءل من قبلنا : ماذا أراد رسول الله صلى عليه وسلم بالقرن؟؟ أو ماذا أراد القرآن الكريم بقوله (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي)
وندرك أننا نتعارف في هذا الزمان على أن القرن مائة عام. يكون هجريا أو ميلاديا أو باعتبار أي تاريخ يعتمده الناس نقطة للبداية..
ولكن هذه الحقيقة العرفية لم تكن سائدة أو متعارفا عليها من قبل في عالم الناس، فقد كان يطلق "القرن" ويراد به عرفيا 40 سنه أو 50 سنة أو 70 سنة، أو 100 سنة أو 120 سنة.. واستقر العرف التاريخي من بعد على 100 سنة كما هو معمول به الآن..
بعض شراح الحديث يرون أن المقصود بالقرن 100 عام ، وأن هذه الخيرية تمتد إلى نهاية القرن الثالث الهجري. وهو قول يقال!!
والرأي الأشهر أن المقصود من القرن "الجيل" من الناس. فقرنُ الرسول صلى الله عليه وسلم هو الجيل من الصحابة الذين عايشوه، والذين يلونهم الجيل من التابعين الذين عاصروا الصحابة، والذين يلونهم هم جيل تابعي التابعين الذين عاصروا التابعين. وتختلف مدة الجيل بحسب العمر الوسطي للمجموعة البشرية المعنية. فأحيانا يكون أربعين أو خمسين أو ستين..
المهم أننا حيث نبحث ونتتبع عصر " الرواية والتدوين والتصنيف" نبحث في عصر مجموعة بشرية مشهود لها بالخيرية من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهادة عامة وليست فردية. مجموعة بشرية مثلت خلال ثلاثة أجيال قمة الخيرية الإنسانية، مجموعة بشرية يغلب عليها التقوى والصلاح والصدق والخوف من الله. ووسط هذه المجموعة البشرية الخيرة والمشهود لها بالخيرية، تم تناقل وتدوين الحديث الشريف، وهذه حقيقة مهمة فاعقد عليها أصبعك، ولا تنسها أبدا، ولا يخدعنّك عنها أحد من الذين يلوون ألسنتهم للطعن في السنة النبوية الشريفة. وتقريرنا هذا لا ينفي أن يتسرب بعض الوهن من ضعف أو من خيانة إلى هذه المجموعة، فكان جهابذة علم الحديث لضعاف النفوس هؤلاء بالمرصاد وإليكم كيف؟؟
"قاعد بيانات لرواة الحديث الشريف.."
في صفوف هؤلاء القوم الغُرّ من رواة الحديث ، حامليه ومتحمليه، كان هناك رجال أبعد شأوا وأكبر عقولا ، وأوسع أفقا، فصاروا إلى وضع ما نسميه في العصر الحديث " قاعدة البيانات" التعريفية، إذا شئتم قلتم بطاقة تعريفية ، وإذا شئتم قلتم بلغة العصر "سي في" وبلغة أهل التتبع "فيش" لكل من روى حديثا، أو قارب روايته. فكل من أراد أن يدخل حديقة الرواية عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيوضع تحت مجهر كاشف، ونور واضح، فيُعرف عنه كل شيء من اسمه ورسمه وشخصه ودينه واعتقاداته وسلوكه الشخصي، ومدخله ومخرجه وكل أمره.
وستكون هذه البطاقة التعريفية مفتوحة متداولة، كل من عرف أمرا أضافه إليها، وكل من سأل عن حال راو من الرواة، وجد المعلومات المتداولة عنه، وهكذا تأسس علم اسمه "علم الرجال" ويقال له أحيانا علم "التاريخ" ويقصدون هذا الذي كنت أحدثكم عنه، والذي أصبحت له بالتالي قواعد وقوانين وضبط وربط عنوانها "علم الجرح والتعديل" نصير إليه بعدُ إن شاء الله ، وإنما نحن معنيون في هذه المقالة أن نوضح الآلية الأساس التي سبقت إليها هذه الأمة، منذ 1400 عام، أن تضع قاعدة بيانات شافية وافية لآلاف الرواة ، الذين اشتغلوا في رواية الحديث الشريف، قاعدة بيانات قوامها الأساسي البحث عن تقوى الله في شخص الراوي " العدالة " والبحث عن العقل والحفظ والقدرة على التحمل، والقدرة على الأداء تحت عنوان "الضبط". وقد لا تخلو بعض المعلومات التي تحتويها "صفحة أي رجل" من تقويمات حادة أو غالية من بعض المقوّمين، تنبع من تشددهم أو من تساهلهم، أو من عصبيتهم أيضا، تذكروا دائما أننا نتحدث عن بشر!! ولكن يبقى الرأي العام في هذه التقويمات البشرية أقرب إلى العدل والاتزان والتقوى.
وحين نرجع إلى قاعدة البيانات هذه سنجد أمرا عجبا يبهج روحنا، ويسر خاطرنا ، ويقنع عقلنا، بأننا حين تتلقى حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتلقاه عن مهزوز أو ملزوز كما يقول الأغمار وإنما نتلقاه عن رجال عدول ضابطين. وربما نجد فيها من تمام الدقة وروعتها توصيفات مثل: مجهول.. مستور.. مختلف في اسمه أو في اسم أبيه ومع ذلك يبقى لكل حالة قواعدها الموضوعية التي تُعامل بها، ويصدر الحكم فيها على المعني ثقة ثبتأ, ثقة فيه لين أو كما يصف الإمام الذهبي أحيانا "جراب الكذب"
"علم الرجال" قد ألف فيه رجال هذه الأمة منذ القرون الأولى معاجم للرجال. فإذا كل راو للحديث الشريف، مثلُ مفردة في معاجم اللغة، له اسمه ورسمه ومكانته، وتاريخ حياته، ويقول لك المعجم: ثقة، تغير بأخِرِه، يروى عنه قبل، ولا يؤخذ عنه بعد تغيره، أو احترقت كتبه، أو تسلط بعض السفهاء على كتبه فعبث بها.. بهذه الدقة المتناهية يمضي هذا العلم القويم إلى غايته.
وكتب الإمام محمد بن إسماعيل البخاري كتابه "التاريخ الكبير" في علم الرجال يقال صنفه وهو في الثامنة عشرة من عمره، ويتكئ متكئ على أريكته ويقول : هم رجال ونحن رجال..!!
حدثوني عن الرجال حديثا ..أو صفوهم فقد نسيت الرجالا
بيت الشعر الوحيد الذي حاكيتُ فيه فنظمته في حياتي..
لندن: 10 رمضان/ 1443
11/ 4/ 2022
____________
*مدير مركز الشرق العربي