الرئيسة \  دراسات  \  ثقافة حديثية ميسرة -6

ثقافة حديثية ميسرة -6

07.04.2022
زهير سالم



زهير سالم*

"ما كل حديث صح سنده ومتنه عمل به"، أمثلة مختارة..
وخلُصنا إلى أن عمل السلف الصالح من القرون الأولى بالحديث الشريف هو المرجع الأول في إعماله أو تركه. وإن صح سنده ومتنه. فاعتماد عمل السلف " إعمالا وتركا " هو الأولى بالاعتبار. فاحفظ هذا وهو الخلاصة، إن لم تكن تبحث عن تفصيل.
وقالوا في تعليل ذلك: إنه لا بد لمن يريد أن يستنبط من النصوص، أن يحيط بجميع النصوص الموازية، ولا ينتبز العلم انتبازا ولا ينتبذه انتباذا، ولا يتعلق بنص وينسى سواه. فالنص الشرعي جزء من منظومة يجب أن تظل منسجمة متلاحمة لا نشوز فيها ولا شذوذ.
ويجب لمن يريد أن يستنبط من النص أن يحيط بتاريخ النص، وأوله الظرف أو السياق الذي قيل فيه النص.
ويجب أن يحيط ثالثا – وهذا هو الأهم فيما نحن فيه - بطريقة تعامل الصحابة الكرام، والتابعين، والأئمة المجتهدين مع النص. والقفز فوق أقوال هؤلاء ليس من الدين، ولا من السنة، بل من الرغبة في التشويش على الناس.
والحديث الشريف، حديث الآحاد الصحيح، وإن سلمت الأمة بصحته، صحته اعتبارية، وليست في حقيقة الأمر. وهذا ما يميز حديث الآحاد عن الحديث المتواتر. فالحديث المتواتر، يورث العلم اليقيني القطعي الذي لا يتطرق إليه الشك. وحديث الآحاد يورث العلم الظني، أي غالب الظن من الصحة الاعتبارية، وهو قدر من اليقين يتيح أن تؤسس عليه الأحكام الفقهية التفصيلية، وتترك مساحة لاحتمال أن يكون الراوي قد وهم أو سها أو غفل. وهذه حقيقة يورث العلم اليقيني، ويورث العلم الظني. وهذا أساس في نظرية المعرفة الشرعية الإسلامية نباهي به المناهج المعرفية في العالم كله.
وغير السهو وهو أقل ما يحمل عليه الحديث الشريف، هناك النسخ، فقد يرد في سياق السنن نهي ثم إباحة مثل : "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" ومثل الإذن الظرفي بمتعة البضع، وقد تكرر بعدُ النهي عنها. وما زال قوم مع الأسف يتعلقون بها. وقلت متعة البضع لأميز بين متعة الحج، ومتعة المطلقة.
وفي الحديث الشريف ما خرج مخرج الزجر والتحذير والتربية النبوية المنهجية مثل حديث: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده"
فإنه لم يقل أحد من الصحابة والأئمة المعتمدين، بقطع يد السارق من أجل بيضة، بل لا يقطع من سرق ما دون نصاب وهو ربع دينار، ومن حرز أيضا. فلقطع السارق شروط، وتدرأ الحدود بالشبهات.
بل وأشكل على بعضهم اللعن في مقدمة الحديث، وقال كيف؟؟!! وقد ثبت النهي عن لعن أصحاب المعاصي. وخرّج بعضهم الحديث فقال: واللعن لعن زجر وتأنيب، وليس لعن طرد من رحمة الله. ثم قالوا ومدخل الحديث أن السارق يسرق البيضة، ثم يسرق الحبل ..ثم يتمادى به الأمر ويعتاد السرقة فيسرق الجمل فتقطع يده. المهم أنه لم يقل بقطع يد سارق البيضة ونحوها أحد لا من الخلفاء الراشدين، ولا من الأئمة المعتبرين. وليسامحني أهل الظاهر.
وكذا ترك الصحابة رضوان الله عليهم العمل بحديث "فإن شرب الرابعة فاقتلوه" عن شارب الخمر يحد ثلاث مرات، ثم حسب الرواية يقتل في الرابعة، فإن الرواية وإن صحت، فإنه لم يعمل بها أحد، لا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد عنه خلافها عمليا، وجاؤوه بمن شرب مرة بعد مرة حتى الرابعة ولم يقتله. ولم يعمل به أحد من الخلفاء الأربعة، ولم يقل بالعمل به أحد من الأئمة المعتمدين..فتأمل
ومن ذلك الحديث المروي عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها تولت عقد نكاح ابنة أخيها عبد الرحمن على ابن اختها. والسنة الماضية أن أمر النكاح مخصوص بالأولياء من الرجال. وكل المحدثين يروون الحديث ولكن لم يعمل به من السلف الصالح أحد. ولعل هذا الحديث يعجب دعاة النسوية اليوم أن تباشر المرأة عقد نكاحها بنفسها!!
ومن تلك الأحاديث التي صحت روايتها وتُرك العمل بها، حديث سيدنا ابن عباس أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: جمع في المدينة -يعني في غير سفر- بين الصلاتين من غير خوف ولا مطر. وكم يعجب هذا الحديث متتبعي الرخص. ولم يعمل به من السلف الصالح أحد..
وإنما أردت أن أسوق أمثلة دالة معبرة، لتعلم أن عمل السلف الصالح وخيرته في القرون الثلاثة الأولى، الصحابة والتابعين وتابعيهم مرجع ومرشد في التعامل مع حديث الآحاد، نعمل ما أعملوه، ونترك ما تركوه، وهم لا يكون لهم أن يرغبوا عن حديث سيدنا وسيدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لعلم علموه، أو فقه فقهوه.. حضروا رضي الله عنهم وغبنا، علموا وجهلنا، فقهوا وغاب عنا!! ولا يحاددهم في فقههم إلا محدود!!
وأضرب لك مثلا من عمل الصحابة الذي شاع وذاع ومضت عليه السنة، من صلاة التراويح، وهي صورة من صور قيام رمضان، جمع سيدنا عمر المسلمين عليها، عشرين ركعة تصلى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تزال تصلى في مسجد رسول الله حتى اليوم كذلك، صليت منذ عهد عمر والصحابة رضوان الله عليهم متوافرون يرون ويسمعون ،ثم يخرج على الناس من يشغب عليهم بحديث عائشة، عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون الذي نسمع ونرى!!
وأختم هذا الموضوع بالتأكيد على ما يلي:
 سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع في الأمر كله لا يرغب عنه مسلم.
الصحة الحديثية ليست كافية وحدها لإيجاب العمل بالحديث، بل يجب أن تقترن بتلقي الحديث بالقبول من جيل الصحابة والتابعين. نعمل ما أعملوا، ونترك ما تركوا، ولا ندعي عليهم الجهل بالحديث، فلا يدعي الجهل على أصحاب رسول الله إلا جاهل.
قال أهل العلم: يُترك الحديث الذي تُرك العملُ به. ولا يُكذب به. ولا يُعمل به. ويُعمل بما عُمل به. نحترم النص ونوقره، ثم نعمل بما عمل عليه أهل الفقه من الصدر الأول.
والذي أردنا التنبيه عليه: هو هذا الخطأ الشائع عند بعض الأدعياء الذين يهجمون على العلم، ويحبون الإغراب على الناس بدعوى أنهم يكتشفون الدين الجديد. من فقه سنة ومن صلاة النبي ومن حجه ومن صيامه!!! وما أجمل ما قال البوصيري:
وكلهم من رسول الله ملتمس.. غرفا من البحر أو رشفا من الديم
لطيفة أحب أن أختتم بها ..
وكان أبو العلاء المعري رحمه الله تعالى يحب الشَّغْب على من حوله، فقال وهو في محبسيه، عماه وبيته، يقلب الفكر في النصاب الذي تقطع به يد السارق، ثم في الإرش الذي يدفعه من يقطع يد إنسان في خصومة أو نزاع، فأورد هذا البيت مستشكلا:
يدٌ بخمس مئين عسجد وُديت .. ما بالها قُطعت في ربع دينار؟؟
ورد عليه نبيه من نبهاء أهل العلم :
عزُّ الأمانة أغلاها، وأرخصها.. ذلُّ الخيانة، فافهم حكمة الباري
لندن: 4/ رمضان/ 1443
5/ 4/ 2022
____________
*مدير مركز الشرق العربي