الرئيسة \  تقارير  \  تكثير السلطة : لماذا الحكم منحدر في مجالنا؟

تكثير السلطة : لماذا الحكم منحدر في مجالنا؟

26.04.2025
ياسين الحاج صالح



تكثير السلطة : لماذا الحكم منحدر في مجالنا؟
ياسين الحاج صالح
القدس العربي
الخميس 24/4/2025
ما هو الشيء الطيب في ممارسة سلطة على الناس؟ ولماذا يغلب أن تأخذ هذه السلطة في المجال العربي شكلاً منعياً أو قمعياً، أو حتى قاتلاً وإبادياً؟ لماذا يكون التفضيل الأول لمن بيدهم سلطة هو المنع أو الزجر أو الضرب، مثلما فعل عناصر من الأمن العام السوري بناشطين سياسيين شبان من السويداء كانوا في طريقهم إلى الرقة في الأسبوع الأول من نيسان الجاري؟ أو أهانوا وروّعوا شخصاً يميل إلى التزيي بأزياء نسائية (أين الجريمة في ذلك؟) بالتلويح بسكين قرب وجهه قبل ذلك بأسابيع؟ هل هذا شيء ممتع؟ أليس بالأحرى شيئاً مقيتاً حقيراً؟ وهل الامتناع عن الضرب والتعدي دليل على الضعف والعجز؟ وهل حقاً “العاجز من لا يستبد”؟ وهل السلطة لا توجد إلا في صورة تحكم بالغير أو إلحاق الضرر بهم؟ ولماذا يعرض الحكم في مجالنا ميلاً ثابتاً نحو التحكم، أي أن يكون كاريكاتيراً لنفسه (دموياً فوق ذلك) لا نحو الحكمة؟ وما الذي يغري حاكماً بأن يبقى في الحكم “إلى الأبد” مثل فعل الأسدان في سوريا، بدل خمس سنوات أو عشر؟ وهل سيكون الرئيس الانتقالي أحمد الشرع أبدياً مثلهما؟ يدفن جيلاً أو جيلين من السوريين قبل الرحيل، سبعينياً أو ثمانينياً؟ أم ربما نراه وهو في الخمسين من العمر مواطناً عادياً، يكتب مذكراته (المثيرة دون ريب) ويرعى زوجه وأولاده، وربما يشارك رؤساء سابقين آخرين في نادٍ يعمل على إصلاح أحوال العالم المتأزمة؟ لماذا يندر وجود حاكمين يتركون مناصبهم طواعية كي يزرعوا حديقتهم مثل الإمبراطور الروماني ديوكليتيان (مطالع القرن الرابع الميلادي) الذي تفاخر بما كان يربيه من ملفوف وخضار أخرى لا بما له من سلطة، أو كي يقرؤوا الكتب، أو ينعموا بحياة عائلية هادئة، أو لمجرد الملل من السلطة؟ أم أن السلطة لا تُمل؟ لا نملك إجابات على معظم هذه الأسئلة، نحاول فقط تقليب الأمر على بعض وجوهه.
بداية، ليست كل سلطة هي سلطة على الناس. هناك سلطة على الأحياء من غير البشر وعلى الأشياء، سلطة الصانعين والعلماء، وسلطة المزارعين ومربي الحيوانات. وهي سلطات تعود على من يحبون أعمالهم ويتقنونها ويتفنون بها بعوائد مادية ومعنوية مهمة (لكن سلطة شركات اللحوم على ما تصنع من أبقار أو خنازير وغيرها يمكن أن تقارن بأسوأ ضروب الطغيان). ثم هناك ما يسمى السلطة الاجتماعية، وهي حيازة الواحد أو الواحدة منا ضرباً من النفوذ أو التقدير بفعل إنجازاته في مجالات العلم أو الرياضة أو الفكر أو المال أو أفعال الخير أو الدين أو الفن أو المعلومات وغير ذلك كثير، تجعل منه مؤثراً اجتماعياً. وقد يجري التعبير عن ذلك بلغة مختلفة، من نوع أن المنجزين مالكون لرأسمال رمزي بعبارة عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، يعود عليهم بمكانة واعتراف اجتماعيين، وربما برساميل مادية: المؤلف المشهور، الأستاذ الجامعي النجم، الرياضي الفلتة، نجم السينما أو الموسيقى الاستثنائي، إلخ. ومن ذلك أيضاً رأس المال الاجتماعي، أي علاقات المرء القوية بالأقوياء النافذين من الأناس، أي أصحاب السلطة في مجالاتهم، بما يعود عليه أو عليها بمنافع موجبة أو ضروب من الحماية.
ويمكن أن نقترح أن السلطة تأخذ الشكل المنعي، وربما القمعي، أو حتى القاتل، بقدر ما يضيق نطاق إنتاج سلطات اجتماعية ورساميل رمزية واجتماعية مختلفة، وأن هذا الضيق يترك التحكم والمنع والتدخل الخشن في شؤون الناس كشكل وحيد أو يكاد من أشكال السلطة. وبالفعل في مجتمعاتنا لا تكاد تشكل الثقافة والفن والتعليم والرياضة وغيرها أرضيات لسلطات اجتماعية مستقلة ذات قيمة عامة معترف بها.
من أجل الديمقراطية يلزم إنتاج سلطة أكثر، ومن أجل سلطة أكثر يلزم هياكل سياسية غير قمعية أو قاتلة
الاستقلال والعمومية والاعتراف أساسية في تعريف السلطة كقيمة فعلية، خلافاً للتبعية والخصوصية والتجاهل. الرياضي الذي يرفع صورة حافظ الأسد أو بشار الأسد إثر فوز يحققه يقول إن الفوز ليس فوزه، إنه ليس صاحب إنجازه، بل هو ذاته إنجاز لصاحب السلطة الحقيقية الوحيد. وهذا الأخير، حافظ أو بشار، لا يبدو مكتفياً بما لديه من سلطة تصل إلى حد تقرير من يترك ليحيا ومن يساق إلى حتفه، حسب تعريف ميشيل فوكو للسيادة، وإنما هو يريد هذه المقادير المتواضعة من السلطة التي يحدث أن يحوزها بعض محكوميهم. حتى أن ابنه باسل حبس رياضياً تجاسر على الفوز عليه (الفارس عدنان قصار، وقد بقي في السجن عشرين عاماً بعد موت باسل عام 1994). لم يكن الأسدان يطيقان وجود أصحاب سلطات عامة مستقلين في مملكتهما، ولا حتى فنانين أو رجال أعمال. طوال حكمهما وقفت سوريا على ساق واحدة، ساق السلطة في شكلها الخشن.
فإن صح ذلك، فإن تكثير السلطة وتوسيع نطاقات وحقول إنتاجها هو من بين ما من شأنه أن يخفف الضغط على طلب السلطة على الناس، أي على أجسادهم وأرواحهم من جهة، وما من شأنه من جهة أخرى أن يسهل توزعها في المجتمع، وبالتالي تكثُّر عدد الرؤوس والرؤساء، فيشكل ذلك قيداً على أشكالها المنعية والقمعية. مجتمع ينتج كثيراً من السلطة هو مجتمع لا تستطيع السلطات السياسية وما في حكمها تجاوز حدودها معه، أي أنه مجتمع أكثر حرية. نعرف منذ أيام مونتسكيو أن ما يوازن سلطة ويكبح توسعها هو سلطة أخرى، ومن هنا مبدأ فصل السلطات. الإنتاج الاجتماعي الواسع للسلطة يوافق توزان السلطات، ويحد من استئثار طرف اجتماعي خاص بها كلها. المجتمع الحر ليس بلا سلطة بالتالي، بل هو منتج للكثير منها. والحرية تتوافق مع إنتاج سلطة أكثر لا أقل، وهي في الوقت نفسه شرط إنتاج المزيد من السلطة. يمكن القول إن الحرية هي هذه العملية من إنتاج سلطات ورساميل رمزية متنوعة لشكم السلطة القمعية، وهي كذلك هذا الشكم الذي يصير مع الزمن طبعاً في المجتمع وعادة أو ديناً للناس.
وهذا كي نقول إن فرصنا في حكم ديمقراطي مرهونة بإنتاج مقادير أكبر من السلطة، نتشاطرها ونتفادى بها أولئك الذين يديرون السلطة القمعية. وفرة السلطة هي شرط الديمقراطية مثلما الوفرة المادية هي شرط الاشتراكية، حسب ماركس والاشتراكيين من جيله. ليس توزيع سلطة شحيحة هو ما يمكن أن يقوم عليه حكم ديمقراطي، بل إنتاج وتوزيع وفرة سلطوية، وإذا كانت اشتراكية الأمر الواقع قد انهارت فلأنها فشلت في إنتاج وفرة من الخيرات المادية والمعنوية، يتشاركها الملايين وعشرات الملايين. إذ لا يمكن للاشتراكية أن تعيش على توزيع القليل من الخيرات، فمن شأن القلة أن تدفع إلى تنافس ضار للنفاذ الامتيازي إلى الموارد، وإلى استخدام سلطة الدولة من أجل هذا الوصول، ومن ارتداد سلطة الدول إلى أشكالها الأخشن، المنعية والقمعية والقاتلة.
ولعله يمكن قول شيء مشابه عن العلمانية مفهومة كتوزيع للمعنى بين الديني والدولتي مثلما تفهم الديمقراطية كتوزيع للسلطة والاشتراكية كتوزيع للخيرات. نحتاج إلى إنتاج المزيد من المعنى، الفن والفكر والفلسفة والشعر والإنسانيات، والعقائد والأديان وأنماط الحياة، من أجل تعلمن حياتنا. فرص العلمنة أضعف كلما كان إنتاج المعاني فقيراً محدوداً، وتديين الحياة العامة في أشكاله الأشد قمعاً معنوياً (ومادياً) هو ما ينتفع من الفقر أو الشح المعنوي. من أحد الأوجه، قد يمكن فهم الإسلامية المعادية للعلمانية بأنها نتاج الفقر المعنوي.
والخلاصة أن من شأن إنتاج كميات أكبر من السلطة أن يعود بالتحسن على نوعيتها كذلك، فتتنحى الأشكال الخشنة والبدائية، ومنها السجون والتعذيب والمجازر، وتسود الأشكال الناعمة من الحصانات والمقاومات والنفوذ والاستقلاليات. الديمقراطية تقوم على أنواع محسنة من السلطة، ومآلها الأقصى هو أن يحوز كل فرد سلطة كافية تحاول دون تجاوز حدوده معه. الديمقراطية نظام وفرة سلطوية تتيح توزع السلطة على الجميع، وهؤلاء الجميع لهم اسم: مواطنون.
غير أن هذا يضعنا في حلقة معيبة: من أجل الديمقراطية يلزم إنتاج سلطة أكثر، ومن أجل سلطة أكثر يلزم هياكل سياسية غير قمعية أو قاتلة. الحل في هذا الشأن وما يشبهه مسألة ممارسة وليس تأملا، لكنه في حاجة إلى تناول مستقل.