الرئيسة \
تقارير \ الوقت ينفد.. واشنطن تضغط ودمشق تتفاعل ولبنان يتجاهل
الوقت ينفد.. واشنطن تضغط ودمشق تتفاعل ولبنان يتجاهل
17.07.2025
صهيب جوهر
الوقت ينفد.. واشنطن تضغط ودمشق تتفاعل ولبنان يتجاهل
صهيب جوهر
سوريا تي في
الاربعاء 16/7/2025
لا يبدو أن زيارة الموفد الرئاسي الأميركي توماس باراك الأخيرة إلى المنطقة، كانت مجرد محطة اعتيادية في مسار الوساطة الأميركية التقليدية، فالزيارة التي أحيطت بكتمان نسبي من حيث جدولها التفصيلي، حملت مضموناً سياسياً استثنائياً من حيث التوقيت والمضمون، خصوصاً أنها أتت في أعقاب لقاء باراك بالرئيس الأميركي دونالد ترمب، وبتكليف مباشر يعكس حجم التحوّلات التي ترسمها واشنطن في مقاربتها للشرق الأوسط، ولبنان تحديداً.
باراك غادر بيروت وسط كمّ من التأويلات والتفسيرات المتباينة لتصريحاته، التي خيّم عليها انطباع عام بالليونة والانفتاح، خاصة في ما يتعلق بمسألة سلاح "حزب الله" وإمكانية الفصل بين الجناحين السياسي والعسكري.
وقد استُغل هذا الانطباع من قبل بعض الأوساط السياسية والإعلامية المرتبطة بـ"حزب الله"، لتسويق رواية مفادها أن الولايات المتحدة باتت منفتحة على تسوية مرحلية تحفظ للحزب مكانة سياسية مقابل نزع سلاحه الثقيل تدريجياً، وربما الدخول في مفاوضات على مستوى بنيوي تُفضي إلى تعديل في النظام اللبناني.
الرسالة الحقيقية التي أراد باراك تكريسها لم تكن تلطيفاً للموقف الأميركي من سلاح "حزب الله"، بل على العكس، كانت محاولة لتأكيد أن نزع هذا السلاح بات أولوية قصوى في الاستراتيجية الأميركية..
لكن ما لبث باراك أن تحرك لاحتواء هذا المسار، فبادر إلى عقد جلسة مغلقة مع إعلاميين عرب في نيويورك، لم تكن مقرّرة سابقاً، ما يشير إلى أن الدبلوماسي الأميركي لمس خللاً في إيصال رسالته، فسعى إلى إعادة ضبط وجهة الرسائل وتفكيك الالتباسات، وقد أعقب هذا اللقاء توضيحات إضافية نشرها باراك عبر حسابه على منصة "إكس"، ما يعكس استشعاره لخطورة التشويش الذي طال مهمته.
والرسالة الحقيقية التي أراد باراك تكريسها لم تكن تلطيفاً للموقف الأميركي من سلاح "حزب الله"، بل على العكس، كانت محاولة لتأكيد أن نزع هذا السلاح بات أولوية قصوى في الاستراتيجية الأميركية، وأن أي تلكؤ لبناني في هذا المسار سيعرّض البلاد لمخاطر وجودية.
وفي هذا السياق، أتى التلويح بما سماه "الخطر الوجودي" في حال فشل لبنان في التكيّف مع التحولات الإقليمية، بما في ذلك العودة إلى "بلاد الشام" كإطار سياسي وأمني محتمل، في حال سقطت التسوية اللبنانية في فخ الجمود أو التواطؤ مع واقع السلاح غير الشرعي.
هذا التهويل لم يكن نابعاً من فراغ، فزيارة باراك تزامنت مع جولة مفصلية لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، في توقيت بالغ الحساسية، وسط تسريبات متزايدة عن تفاهمات أميركية-إسرائيلية يجري بلورتها خلف الكواليس، تشمل ترتيبات إقليمية تتعلق بالوضع في لبنان وسوريا وفلسطين.
وفي ضوء هذه الدينامية، يُفهم الضغط الأميركي على بيروت لتقديم خطة واضحة ومفصّلة حيال ملف السلاح، قبل الزيارة الثالثة المرتقبة لباراك إلى العاصمة اللبنانية.
كلام الموفد الأميركي تضمّن أيضاً إشارات غير مباشرة إلى مخاوف واشنطن من أي محاولة للعب بالنظام الدستوري اللبناني، فقد تعمّد باراك توجيه رسائل قوية إلى الأطراف التي تُشيع أن تعديل الطائف بات مطروحاً على الطاولة ضمن صفقة شاملة، إذ حذر من أن أي تغيير في البنية الدستورية اللبنانية قد يفتح الباب أمام استعادة النفوذ السوري، تحت ذريعة إعادة صياغة التوازنات الداخلية.
ومن هنا جاء توصيفه الصادم للبنان بأنه "المنتجع الشاطئي للسوريين"، تعبيراً عن الرفض الأميركي لأي سيناريو يسمح بإعادة إنتاج صيغة وصاية إقليمية -لا سيما من دمشق- تحت ستار الإصلاح الدستوري.
لكن السياق لا يقف عند لبنان فقط، فباراك، وهو أحد المقرّبين من دونالد ترمب وأكثرهم التزاماً برؤيته للشرق الأوسط، عبّر أكثر من مرة عن قناعته بانتهاء صلاحية خرائط سايكس-بيكو، وضرورة استبدالها بنموذج جيوسياسي جديد لا يقوم على القوميات بل على توازنات وظيفية وتحالفات أمنية.
وهذا ما عكسته تغريدته الشهيرة في مطلع مهمته عن "نعي سايكس-بيكو"، وما عاد وأكده في نيويورك عندما قال إن تقسيمات 1919 خدمت مصالح استعمارية بحتة، بينما رؤية ترمب تتجه لبناء شرق أوسط مختلف لا يتكرّر فيه خطأ ما بعد الحرب العالمية الأولى.
هذه الرؤية تكتمل مع التطورات اللافتة التي تشهدها المنطقة، فالتقارير المتقاطعة عن لقاء مباشر بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين في العاصمة الأذربيجانية باكو، خلال زيارة رسمية للرئيس السوري أحمد الشرع، لا يمكن فصلها عن السياق الأشمل، فاللقاء الذي تمّ في إطار التنسيق الأمني بين الجانبين، يؤكد أن دمشق الجديدة تسير بخطى ثابتة نحو إعادة تموضع استراتيجي قد يُفضي إلى اتفاقات تطبيع رسمية، برعاية وضمانات إقليمية ودولية، وهو مسار يتقاطع مع لقاءات سابقة عُقدت بشكل سري في أنقرة، ما يكشف عن نضج خطوط التواصل وتراكم التفاهمات بعيداً عن الأضواء.
في موازاة ذلك، تأتي عملية تفكيك "حزب العمال الكردستاني" لترسانته العسكرية في شمالي سوريا، كبند إضافي في اتفاق واسع يشمل الأكراد والنظام وتركيا، ويعيد رسم معالم النفوذ في تلك الرقعة الجغرافية الحساسة.
لا يمكن النظر إلى لبنان بمنظار محلي ضيق، لأنّ ما يجري هو إعادة تموضع إقليمي شامل، ولبنان ليس استثناء، بل إحدى ساحات الاختبار المحورية، والتساهل في فهم هذا الواقع، أو التمسك بخطاب قديم، أو اختزال الأزمة في أطر شعبوية، هو أقصر الطرق إلى الانهيار الكامل..
من هنا فإن التحوّل المفاجئ في موقف وزيري اليمين المتطرّف إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش من وقف إطلاق النار في غزة، بعد عودة نتنياهو من واشنطن، يعكس حصول رئيس الحكومة الإسرائيلية على ضمانات استراتيجية كبيرة جعلت أقصى جناحي اليمين يقبلان بالتسوية.
وهذا التراجع لا يُقرأ إلا في إطار وجود صفقة أكبر يجري إنضاجها، تشمل المسألة الفلسطينية وسيناريوهات تقسيمية محتملة في أكثر من بلد عربي، وهو ما ألمح إليه رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم، حين كتب على منصة "إكس" محذّراً من خطر تفتيت الدول العربية، وعلى رأسها سوريا.
من هنا، لا يمكن النظر إلى لبنان بمنظار محلي ضيق، لأنّ ما يجري هو إعادة تموضع إقليمي شامل، ولبنان ليس استثناء، بل إحدى ساحات الاختبار المحورية، والتساهل في فهم هذا الواقع، أو التمسك بخطاب قديم، أو اختزال الأزمة في أطر شعبوية، هو أقصر الطرق إلى الانهيار الكامل.
في ضوء كل ذلك، يصبح من العبث البحث عن الحل في المكان الخطأ، أو التمسك بنماذج لا تتلاءم مع لحظة التحول الكبرى، وكما تقول الطرفة اللبنانية القديمة: لا معنى للبحث عن النقود في مكان مضاء إذا كنا قد أضعناها في مكان آخر، والخطورة الآن أن لبنان، بجميع قواه، يبحث عن خلاصه في الماضي، في حين مستقبله يُرسم في مكان آخر تماماً.