الرئيسة \  تقارير  \  الوعي المأزوم وإمكانات التحوُّل في سوريا الجديدة

الوعي المأزوم وإمكانات التحوُّل في سوريا الجديدة

22.09.2025
فاطمة عبود



الوعي المأزوم وإمكانات التحوُّل في سوريا الجديدة
فاطمة عبود
سوريا تي في
الاحد 21/9/2025
يعدُّ الوعي المأزوم مفهوماً فلسفياً وسياسياً، وحالة مركَّبة تنشأ عند تقاطع التجارب التاريخية المؤلمة مع الانسداد المعرفي والاجتماعي الذي يعانيه الأفراد والجماعات في مرحلة ما بعد الانهيار السياسي، ويظهر هذا الوعي بشكل جليٍّ عندما تواجه المجتمعات محنة عميقة تتعلُّق بالهوية والحرية والدولة والشرعية، وبما أنَّ سقوط نظام الأسد شكَّل نقطة انعطاف تاريخية، فإنِّها وضعت السوريين أمام لحظة وعي مزدوجة؛ وعي بانهيار البنى السلطوية التي حكمتهم لعقود طويلة، ووعي بأزمة البديل القادر على إعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس جديدة.
ولا يمكن تبسيط هذا الوعي على اعتباره حالة نفسية، فهو نتاج تاريخ طويل من التراكمات البنيوية التي أحدثها الاستبداد والفساد والعنف الممنهج المرتبط بنظام أحاط بالإنسان السوري في تفاصيل حياته اليومية، وحاول تشكيل وعيه وفق سرديات الخوف والولاء والانغلاق، ولذلك فإنَّ لحظة سقوط هذا النظام فجَّرت سؤالاً وجودياً عميقاً يتعلَّق بقدرة السوري على استعادة ذاته من تحت الركام، وبناء وعي جديد غير مأزوم، غير أنَّ المأزق يكمن في أنَّ الانفجار الثوري، وما أعقبه من حرب وتدخُّلات دولية وتشرذم اجتماعي، أوجد تراكمات جديدة من الأزمات جعلت وعي السوري مثقلاً بالمخاوف والشكوك، فمن جهة هناك حاجة ماسَّة إلى إعادة تعريف الوطن والمواطنة والدولة، ومن جهة أخرى هناك عجز عن التوافق على مرجعية قيمية وأخلاقية وسياسية جامعة.
وفي هذا السياق يصبح الوعي المأزوم حالة انتقالية بين وعي سلطوي موروث ووعي تحرُّري مأمول، فالمجتمع السوري بعد سقوط الأسد وجد نفسه أمام فضاء مثقل بذاكرة جماعية شوَّهتها سنوات الحرب، وهذا ما جعل من عملية الانتقال الديمقراطي أمراً معقَّداً على المستوى المؤسسي وعلى المستوى النفسي والاجتماعي، إذ كيف يمكن للوعي الذي عاش لعقود طويلة تحت منطق الرعب والخوف أن يتحوَّل فجأة إلى وعي حرٍّ قادر على إنتاج بدائل؟ هنا تكمن المعضلة التي تجعل الوعي المأزوم في سوريا الجديدة مركزاً للتأمُّل، فهو وعي يعيش تناقضاً بين التطلُّع إلى الحرية والخوف من الفوضى، وبين الرغبة في العدالة والقلق من عودة الاستبداد بأشكال جديدة، وبين الحاجة إلى هوية وطنية جامعة.
في هذا السياق يصبح الوعي المأزوم حالة انتقالية بين وعي سلطوي موروث ووعي تحرُّري مأمول، فالمجتمع السوري بعد سقوط الأسد وجد نفسه أمام فضاء مثقل بذاكرة جماعية شوَّهتها سنوات الحرب، وهذا ما جعل من عملية الانتقال الديمقراطي أمراً معقَّداً على المستوى المؤسسي وعلى المستوى النفسي والاجتماعي
ولا بدَّ أن نأخذ في الحسبان، ونحن نحاول فهم الوعي المأزوم، طبيعة التكوين التاريخي للمجتمع السوري الذي تميز بتعددية دينية وإثنية وثقافية، هذه التعددية كانت مصدر غنى حضاري، لكنَّها تحوَّلت في ظلِّ السلطة الاستبدادية إلى أداة تفكيك وإضعاف، إذ عمد النظام إلى تأبيد الانقسامات ليحكم عبر سياسة "فرِّق تسد"، ومن ثمَّ فإنَّ سقوط النظام يضع التعددية في مواجهة مصير جديد، فإمَّا أن تتحوَّل هذه التعددية إلى قاعدة للتعايش والمواطنة، أو أن تبقى رهينة الاستقطاب والتناحر، وفي الحالتين فإنَّ وعي السوري محكوم بأن يعيد صياغة علاقته بالآخر المختلف وبالذات الجمعية.
وتزداد الأزمة تعقيداً حين ندرك أنَّ السوريين بعد عقود من انقطاع الحياة السياسية الطبيعية لم يطوِّروا تقاليد مؤسسية ديمقراطية أو ثقافة مدنية متينة، فالمنظمات السياسية كانت إمَّا تابعة للنظام أو محاصرة ومضطهدة، والنخب الفكرية والثقافية تعرَّضت إمَّا للتدجين أو للنفي، وهذا يعني أنَّ البناء فوق الأطلال سيكون محفوفاً بالمخاطر، إذ إنَّ وعي ما بعد الأسد يفتقر إلى قاعدة راسخة من الثقة المتبادلة والمؤسسات المستقلة، وبالتالي فإنَّ عملية الانتقال الديمقراطي ستكون معركة مع الذات قبل أن تكون معركة مع البنى الخارجية، فالسوري مدعو إلى مواجهة صورته التي شوَّهها الاستبداد، ومطالب بأن يتحرَّر من عقد الخوف والوصاية، وفي هذا السياق تبرز الحاجة إلى ما يمكن تسميته بالوعي النقدي، أي ذلك الوعي الذي يعترف بالأزمة ولا ينكرها لكنَّه يحولها إلى فرصة للتجاوز، فالوعي النقدي يتطلَّب الاعتراف بالانقسامات والعمل على تحويلها إلى تعددية صحية، وأن يواجه الذاكرة الجماعية للعنف ويحولها إلى طاقة للعدالة الانتقالية، وأن يدرك المخاطر ثمَّ يسعى إلى بناء مؤسسات وقيم قادرة على امتصاص الأزمات.
 فإذا كان الوعي المأزوم في سوريا الجديدة يعكس حالة التردُّد بين التطلُّع والخوف، فإنَّه يمكن اعتباره نقطة انطلاق لإعادة تأسيس الدولة والمجتمع على أسس جديدة، شريطة أن يتمَّ تفعيل طاقات المجتمع المدني، وإعادة بناء الثقة بين المكونات المختلفة. وهنا يأتي دور النخب الفكرية والثقافية والسياسية في إنتاج خطاب جامع يتجاوز منطق الثأر والتخوين ويؤسِّس لمشروع وطني يوازن بين العدالة والمصالحة، وبين الحرية والاستقرار، وبين الهوية الجامعة والتنوُّع.
إنَّ تجاوز الوعي المأزوم يتطلَّب أولاً نقداً جذرياً للثقافة السياسية السائدة التي اعتادت على الشخصنة والزعامة الفردية، كما يتطلَّب ثانياً إعادة بناء الثقة بين الفرد والدولة عبر مؤسسات شفافة وخاضعة للمساءلة، ويتطلَّب ثالثاً مشروعاً تربوياً وثقافياً يعيد الاعتبار لقيم المواطنة والتعددية والحرية، ولعلَّ أخطر ما قد يهدِّد سوريا الجديدة بعد سقوط الأسد هو إعادة إنتاج الاستبداد بأشكال مختلفة تحت ذرائع حماية الاستقرار أو مواجهة الفوضى.
يمكن القول إنَّ الوعي المأزوم في سوريا الجديدة بعد سقوط الأسد هو نتاج طبيعي لمسار طويل من التدمير الممنهج للسياسة والثقافة والمجتمع، لكنَّه في الوقت نفسه يمكن أن يكون فرصة لإعادة بناء الذات السورية على أسس جديدة. والمستقبل السوري سيتوقَّف على قدرة المجتمع على تحويل هذا الوعي المأزوم إلى وعي نقدي خلَّاق، قادر على إنتاج بدائل سياسية وأخلاقية ومؤسسية تضمن ألَّا يتكرَّر الاستبداد وألَّا تضيع التضحيات التي قدَّمها السوريون في سبيل حريتهم وكرامتهم.