الرئيسة \  مشاركات  \  الموت جوعاً. .. وذكريات الطفولة

الموت جوعاً. .. وذكريات الطفولة

12.03.2017
محمد الزعبي

محمد الزعبي
٨/٣/٢٠١٧
أول عمل قمت به عندما استيقظت  هذا الصباح هو فتحي للتلفاز  أو إذا شئت لتلك الآلة العجيبة التي لايفقه شخص من أبناء العالم " الثالث " مثلي ، أسرارها وخفاياها ، اللهم إلا ماتراه عيناه وما تسمعه أذناه . فماذا رأت عيناي وماذا سمعت أذناي هذا اليوم ؟. 
نعم ، لقد رأيت عجباً وسمعت أعجب  : رأيت أطفالاً يموتون  ( حقيقة وليس مجازاً ) جوعاً وعطشاً وبرداً في سوريا وفِي العراق  وفي اليمن وفِي الصومال وفي أثيوبيا وفي إرتريا وفي السودان وفِي النيجر وفِي تشاد في الوقت الذي ينفق فيه الأوربيون  ١٠ مليارات دولار ، والأمريكان ٣٥ مليار دولار على الآيس كريم  وحده سنوياً  . وسمعت  أكاذيب مكشوفة  تصدح بها حناجر العديد من المسؤولين  الحكوميين ، والعديد من الإعلاميين ورجال الدين ( من مرتزقة السلطان ) في هذه الدول والمجتمعات ، للتغطية على الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة العالمية المرضية ، التي وصفها /شبهها  أحد الرؤساء المحترمون  (يجوز المحترمين أيضاً  ) بقوله : " " " العالم اليوم أصبح جزيرة من الأغنياء يحيط بها بحار من الفقراء  " .
وبينما أنا  مسمّر أمام ذلك الجهاز العجيب  ، استمع لصحيح الأخبار وكذبها  ، تذكرت حكاية من حكايات طفولتي ، رأيت أن أعرضهما على القارئ الكريم   في إطار هذا الموضوع  ، رغم  المسافة الزمنية بل والعلاقة غير المباشرة معه ( الموضوع )  . وقبل وصولي إلى عرض الحكاية المعنية أحب أن أشير إلى مسألتين الآولى هي أنه من العرف السائد عند  المسلمين  ، أن جلوس الأسرة على مائدة الطعام يقتضي  البدء بالبسملة والانتهاء بالحمدلة  ، والثانية هو أن والدي رحمهما الله قد ربياني على أن آشكر الله ليس فقط على الرز واللحم ( إقرأ لاحقاً )  وإنماعلى كسرة الخبز اليابسة أيضاً   . أما الحكاية التي أرغب بعرضها هنا فهي التالية :
كنت آردد مع أطفال حارتي في مرحلة ماقبل المدرسة الابتدائية  ، الأهزوجة التالية : " الحمدو وش لك عندو ؟ .. لي عندو رز ولحمة " (!!)  ، للوهلة الأولى يبدو أن هذه  " الأهزوجة " الطفولية ( الحمدو وش لك عندو ... )  البسيطة لاتنطوي على أي مضمون سياسي أو اجتماعي  ، بيد أن  مزيداًمن التفكير والتدوير ، جعلني أغير رأيي ولا سيما بعد أن قمت بتفكيك عراها ، وأعدت  قراءتها وصياغتها بعد أن ألبستها ثوباً سوسيولوجياً قشيباً من صنع إميل دوركهايم  ، وبت لا لاأستبعد تضمنها أبعاداً سياسية وإجتماعية ،  ربما  صاغها الكبار كحصيلة لتجارب  أجيالهم المتعاقبة  بالأمس ويرددها بوعي ضبابي أحفادهم الصغار والذين كنت واحداً منهم  اليوم .
بطلا هذه الأهزوجة / القصة  ( وفق رؤيتي لها اليوم ) طفلان صغيران  صديقان  ينتميان إلى أسرتين مختلفتي المستوى الاقتصادي ، حيث كان طعام الغني منهما " الرز واللحم " بينما لايزيد طعام الفقير منهما عن كسرة خبز يابسة . الامر الذي قام معه صاحب الرز واللحم بعد أن شبع ، بتقديم الشكر لله على ماأنعمه عليه ، أما الثاني ( الفقير ) فقد التهم  كسرة خبزه وظل صامتاً ، أي أنه لم يشكر الله ( الحمدلة )  كما فعل صديقه الغني (!!)  ,  وهنا دار بينهما الحوار التالي :
>   الأول  : لماذا لماذا لم تنه طَعَامِك بالحمدلة ( الحمد لله )  ياصديقي ؟   .
 >  الثاني : وعلام أحمده ، أعلى كسرة خبز يابسة ؟!. إنه مدين لي ، وسأحمده  فقط بعد   
      سداده لهذا الدين  .
> الأول  : وما هو هذا الدين ياصديقي ؟ .
>  الثاني : إنه " الرز واللحم " ألذي  كنت أنت  تتناوله قبل قليل (!!) ، في حين كنت أنا  التهم
     كسرة الخبز اليابسة  (!!).
>  الأول : لقد شاءت الظروف  الخارجة عن إرادتي وإرادتك ياصديقي أن تجعلني ابناً لعائلة
     غنية ، وأن تجعلك  ابناٍ لعائلة فقيرة ، ولكننا الآن متساويان في كل شيء ، فيما عدا الرز
     واللحم ،   فتعال نعمل معاً ياصديقي  على تصويب تلك الظروف  وتصحيحها ، وعندها
     سوف نشترك معاً  وعلى قدم المساواة في  أكل الرز واللحم ورغيف الخبز اليابس  ، وأيضاً
    وأيضاً في البسملة والحمدلة  .
> الثاني : دعني أشد على يدك  ، ودعنا نبدأ مشوارنا الطويل بل حلمنا الآن ومن هنا .
> الإثنان معاً وبصوت واحد : اتفقنا .
بعد مرور ثمانية عقود  على هذا الاتفاق الجنتلماني  بين هذين الطفلين الصغيرين البريىئين التقيا ،  كشيخين  عجوزين  ، نظرا حولهما ، ليريا آن الأمور  قد سارت وتسير  ، ليس في بلدهما فقط  ، وإنما في العالم أجمع  ، في " الاتجاه المعاكس "  لما رغباه وخططا له .  فقد ازداد غنى الأغنياء وفقر الفقراء  وبات الرز واللحم اليوم  حكراً على الأغنياء ( الجدد والقدامى ) أما الفقراء  والشرفاء ( الجدد والقدامى آيضاٍ )  فحالهم اليوم كحال آبائهم بالأمس  ، وبينما هما في  طريقهما كل إلى قبره ، أخرج أحدهما ورقة من إحدى جيوبه ، لقد كانت خارطة  الجمهورية العربية السورية وقد غطت آرضها وسماءها الأعلام الروسية والأمريكية  ، وقال مخاطباً صديق طفولته :  لقد سرقوا الرز واللحم ياصديقي   ، بل وسرقوا حلمنا آيضاً ، وقبل أن يعيد الخارطة إلى جيبه  تمتم بصوت شبه مسموع  " الحمد  لله على كل حال "