الرئيسة \  واحة اللقاء  \  المهجّرون وصراع الحلم المنشود

المهجّرون وصراع الحلم المنشود

17.09.2017
محمد كساح


العربي الجديد
الجمعة 15/9/2017
شكلت الأشهر المتراكمة منذ نهاية أغسطس/ آب 2016 جبلا من المرارة، لا يكاد ينقص بمقدار ما يزيد ارتفاعه يوما بعد يوم، وتهجيرا بعد تهجير.
في ذلك التوقيت، أخليت مدينة داريا التي قاومت أربعة أعوام، وقاتلت حتى الرمق الأخير، وسرعان ما فرطت حبات العقد بعدها، حين غادر الثوار من معظم المدن والبلدات التي كانوا يرابطون عليها بالقرب من العاصمة، باتجاه محافظة إدلب التي كانت منسيةً في "العهد القديم"، ولا تزال كذلك في "العهد الجديد".
على أي حال، غدا التهجير بديلا عن الحصار والقصف والقتل الذي عاشه عشرات الآلاف في هذه المناطق، ومع دخول الباصات أول محطة تابعة للثورة في الشمال، تنفس المهجّرون الصعداء لابتعادهم عن السجن الكبير الذي قبعوا فيه سنوات طويلة، لن تنساها مخيلتهم حتى ولو محيت من ذاكرة الأيام.
عاش المهجرون الأسابيع والأشهر التي تلت الرحلة الطويلة من مناطق صمودهم باتجاه المثوى الأخير في التعرّف مجدّدا على متع الحياة. ثوّار المناطق المحاصرة مثل داريا والمعضمية والزبداني ومضايا تنسّموا رائحة الخبز أول مرّة منذ سنوات. عشرات الأطعمة والأشربة وسائر متع الحياة ولج إليها هؤلاء، وقد تفتحت حدقات العيون، وسال لعاب الفم "ياه، كنّا في سجن كبير، وها قد تم إطلاق سراحنا، فتمتعي، يا نفس، بنعيم مقيم وفرح لا ينتهي".
لم يكن باستطاعة من غادروا بلدات الريف الدمشقي أن يسيروا أكثر من بضعة كيلو مترات في مناطقهم المحاصرة. لكن، وفور قدومهم إلى الأرض الخضراء، باتت السهب واسعةً أمامهم ليسيروا آلاف الأميال في مساحة تفوق 10 آلاف كيلو من الأراضي المحرّرة .
مطاعم الشاورما والدجاج المشوي واللحم المحمر والأماكن المعدّة لتناول الكوكتيل والعصائر المختلفة، وما لذّ وطاب من مختلف المأكولات والمشروبات غدت في متناول أيديهم، بعد أن كان أحدهم يشعر أنّ الدنيا قد حيّزت له، حين يحصل على قطعة من خبز الشعير أو غلوة قهوة مع الهال، وسيكون الحظ حليفا له في حال تمكّن من شراء 200 غرام من السكر الأبيض بـ 10 دولارات، لاحتساء كأس من الشاي الخمير في الصباح الباكر مع صياح الديك الوحيد في بلدته المحاصرة منذ ما لا يحصى من الأيام.
تفاصيل هائلة لم تدوّن، تتعلّق باللقاء المحموم الذي جمع المهجرين بالدنيا الغائبة عنهم. وفي المقابل، هناك تفاصيل أشد هولا تتحدّث عن الشوق والحنين الذي يساور كل مهجّر، عن الحلم المنشود للأرض والبيت وشجرة الزيتون المنتصبة عند حافة النهر.
في كل ليلةٍ، يخفي المهجرون المقيمون في الأراضي المحرّرة شمالي سورية أحلام العودة تحت وسائدهم المبللة، ليغفوا بعد أن مسحوا دموع الحنين إلى الأرض المقدسة، حيث ملاعب الطفولة وهوى الشباب.
وهكذا يعيش عشرات الآلاف ممن لا زالوا يقبعون في إدلب، أو غادروا خارج البلاد حالة انفصام داخلي، فلا الظروف التي تمرّ بها البلد تسمح لهم بالعودة، ولا الحنين الذي ينهش الضلوع يبتعد قليلاً ليتمتعوا ببعض الاستقرار وراحة البال في أماكن وجودهم، ويبقى الصراع الداخلي شاهرا سلاحه الرهيب، حتى يقضي الله أمرا، في يوم من الأيام.