الرئيسة \
تقارير \ الكلمة المنطوقة الإلكترونية: سلاح السوريين الجديد بين البناء والتمزيق
الكلمة المنطوقة الإلكترونية: سلاح السوريين الجديد بين البناء والتمزيق
14.05.2025
عبد الناصر الجاسم
الكلمة المنطوقة الإلكترونية: سلاح السوريين الجديد بين البناء والتمزيق
عبد الناصر الجاسم
سوريا تي في 13-5-2025
منذ أكثر من عقد من الزمن، والسوريون يخوضون حربًا متعددة الوجوه: ضد الاستبداد، ضد الدمار، وضد التزييف. وبعد أن أنهكت آلة القمع الأسدية البلاد لأكثر من خمسين عامًا، لم تتوقف المعركة عند حدود الرصاص والقصف، بل امتدت لتطول الوعي والذاكرة ولغة الخطاب والتواصل.
وأصبح واضحاً حجم الأذى الذي أصاب النسيج المجتمعي السوري من جراء تلك الحرب الخبيثة والتي استهدفت البنى المجتمعية والسياسية والاقتصادية، ولم يترك فيها ذلك النظام المجرم فرصة للحياة أو للسلم الأهلي لكل من رفع صوته مطالباً بالحرية والكرامة، وعمل على تقسيم المجتمع السوري إلى جهتين ضمن سياق ثناية (مع – ضد) واستخدم كل وسائل التشويش والتشويه الممكنة للغالبية العظمى من السوريين والذين ثاروا ضد القمع والاستبداد، واستثمر في بث الشائعات وتركيب الصور النمطية وترتيب الفتن بين مكونات المجتمع السوري وذلك من خلال آلته الإعلامية الرسمية وغير الرسمية ومن خلال الإعلام الاجتماعي عبر منصات التواصل المختلفة واستخدم ما سماه آنذاك (الجيش الالكتروني).
ومع انكسار الطغيان وسقوط وهم "إلى الأبد"، انطلقت محاولات السوريين لإعادة بناء أنفسهم ومجتمعاتهم، وكان أحد أبرز ساحات هذه المحاولات هو الفضاء الرقمي حيث وُلدت من جديد "الكلمة المنطوقة"، ولكن بشكلها الإلكتروني، لتصبح صوتًا وموقفًا، وأحيانًا كثيرة جبهة أخرى من جبهات الصراع.
ما نكتبه، نعلّق عليه، نشاركه أو حتى نلمّح إليه على فيسبوك ومنصة إكس وتيليغرام، لم يعد مجرد رأي عابر إنها الكلمة المنطوقة الإلكترونية أو ما تسميه الأدبيات الغربية بـ Word of Mouth، تلك التي باتت تشكّل قناعات وتحرّك جماهير وتغيّر المزاج العام، وخاصة في المجتمع السوري الذي ما يزال يتلمس طريقه نحو إعادة تعريف ذاته بعد عقود من التعتيم والخوف، وتمثل دور المفتاح الأساسي في عمليات تسويق القيم والأفكار والأحداث، حين يقوم العديد من الأفراد بمشاركة خبراتهم وأخبارهم حول قضية ما وأحياناً يشاركون تصوراتهم المسبقة أو آرائهم المتحيزة بشكل غير مقصود وفي بعض الأحيان تكون الكلمة المنطوقة الإلكترونية مقصودة ومخططة من أجل إحداث أثر مستهدف.
لكن هذا الدور المزدوج للكلمة — القادرة على التضميد كما على التسميم — يضعنا أمام تحدٍّ أخلاقي وفكري كبير: كيف نتعامل مع ما يُقال؟ وكيف نميز بين ما يُراد بنا وبين ما يُراد لنا؟
من يتابع الحوارات السورية على المنصات الرقمية، يلاحظ تدفقًا هائلًا للمعلومات والآراء والانفعالات. جزء منها حقيقي ونابع من الألم والأمل، وجزء آخر يُدار من غرف مظلمة، ويُضخّ عبر حسابات وهمية لإعادة إنتاج الانقسام والكراهية.
في ظل هذا الزخم، تبدو الكلمة الإلكترونية اليوم بحاجة إلى فلترة عقلانية، تستند إلى أربعة أبعاد رئيسية يجب أن تتحقق لتكون الكلمة صادقة وفاعلة:
1. المصداقية: من قالها؟ وهل نعرفه؟ هل يعتمد على معطيات أم على انفعالات؟
2. الكثافة: هل هذه الكلمة تُمطر علينا من عشرات الحسابات بشكل مريب؟
3. الجودة: هل تحتوي على معلومات دقيقة؟ هل تقدم حجة؟ سياقًا؟
4. الخبرة: هل القائل خبير؟ أم مجرد ناقل لمشاعر غير محسوبة؟
تعد مصداقية الكلمة المنطوقة أهم بعد من أبعادها لما لها من دور في تكوين الموقف المبني على الثقة في مصدر الكلمة، وهذه المصداقية تتمثل في مدى الحكم الصادر عن صاحب الكلمة أو المعلومة المنشورة وما ينطوي عليه من أحكام موضوعية عن دقة المعلومات النابعة من التصورات الشخصية والخبرة الذاتية، فالثقة عامل مهم في تقييم مصداقية الكلمة المنطوقة والتي تعتمد على مدى صدق المعلومات الصادرة عن المصدر، بحيث يجب أن تكون غير مضللة وغير خادعة وغير منحازة، وكذلك يجب أن يكون مصدر الكلمة المنطوقة معلوماً بمعنى هويته واضحة .
كما تلعب كثافة المعلومات التي يتلقاها الجمهور المستهدف من مصادر الكلمة المنطوقة دوراً مهماً في تعزيز تكوين الموقف والاتجاه ولاسيما في القضايا الشائكة والمعقدة، مثل القضايا التي تنطوي على مناصرة أو تحريض أو تأجيج، وهذا ما نلاحظه في كمية النشر الهائلة والمتواصلة عندما يظهر (ترند) أو تسليط الضوء على قضية ما، وذلك بغض النظر عن كون هذه القضية عادلة أم غير عادلة أو مثبتة أم غير مثبتة.
وكذلك من المهم أن تتصف الكلمة المنطوقة بالجودة، وجودة الكلمة المنطوقة تعني مدى جودة المعلومات التي تقدمها وتقاس بمدى توفر المعلومات اللازمة والكافية وفي توقيتها المناسب والتي تغطي مختلف الجوانب المراد الإشارة إليها من وراء نشر الكلمة المنطوقة، وغالباً ما يكون التناسب طردياً بين جودة الكلمة المنطوقة وبين تأثيرها.
وتبرز أهمية الكلمة المنطوقة من خبرتها، وتتمثل خبرة الكلمة المنطوقة في المصدر الذي يستطيع الجمهور الاستعانة به للحصول على المعلومات الدقيقة والصحيحة حول القضية المطروحة، وبقدر ما يكون هذا المصدر خبيراً بالقضية التي ينشر عنها بقدر ما يكون جديراً بالثقة ومرشحاً لإحداث التأثير.
في لحظة فارقة من تاريخ السوريين، لم تعد الكلمة مجرد أداة تعبير، بل أصبحت أداة مصير. إما أن نستخدمها لترميم ما تم كسره، أو نسمح لها أن تكون أداة أخرى من أدوات الخراب فلنُحسن استخدامها.
مؤخرًا، كشف تحقيق لـ BBC العربية عن شبكات منظمة تنشط على منصة "إكس" (تويتر سابقًا)، تنشر خطاب كراهية ومعلومات مضللة حول الوضع السوري، حسابات خارجية، تتلاعب بمزاج الداخل، تصطنع "الترندات"، وتوجه السخط من هنا وهناك. ومع غياب مصدر رسمي موثوق للمعلومة، تبقى هذه الأصوات هي الأعلى، وهي الأكثر تكرارًا.
لكن هل يعني ذلك أن نُغلق عيوننا وآذاننا؟ هل نعيش في عزلة رقمية كي لا نقع في فخ التلاعب؟ قطعًا لا.
علينا ألا نسقط في فخ الثنائية القاتلة: الإنكار الكامل أو التسليم المطلق.
بل نحتاج إلى خيار ثالث: أن نُبقي أعيننا مفتوحة، ولكن بعدسة فاحصة. أن نتعرض للكلمة الإلكترونية ونتفاعل معها، لكن وفق وعي نقدي يرفض التضليل ويبحث عن المصدر ويقارن ويحلل.
والأهم، ألا ننسى مسؤولية المؤسسات الرسمية والمنظمات المدنية في خلق بيئة رقمية صحية. فكما على الفرد مسؤولية الفرز، على الدولة مسؤولية النشر الصادق، وعلى القانون مسؤولية ردع المحرضين والمزورين.
في لحظة فارقة من تاريخ السوريين، لم تعد الكلمة مجرد أداة تعبير، بل أصبحت أداة مصير. إما أن نستخدمها لترميم ما تم كسره، أو نسمح لها أن تكون أداة أخرى من أدوات الخراب فلنُحسن استخدامها.
الكلمة المنطوقة الإلكترونية في السياق السوري اليوم، ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي أداة لإعادة تشكيل وعي جمعي، ويمكن أن تكون سلاحًا للفتنة أو أداةً للسلام، بحسب كيفية استخدامها ومدى الالتزام بأخلاقيات التواصل ومصداقيته.