الرئيسة \  واحة اللقاء  \  العقد المجتمعي في العراق وسوريا

العقد المجتمعي في العراق وسوريا

12.08.2018
الحسين الزاوي


الخليج
السبت 11/8/2018
تطرح النجاحات العسكرية التي تحققها الجيوش في ساحات المعارك المختلفة أسئلة جدية بشأن إمكانية ترجمة هذه النجاحات إلى انتصارات سياسية تخدم الأجندات التي تسعى الدول إلى تجسيدها على أرض الواقع. فهناك بون شاسع بين السيطرة على المدن والبلدات، وبين كسب ود الشعوب والأفراد الذين أدمت الحروب قلوبهم، وأدمعت عيون أطفالهم، ونسائهم.
ما يحدث الآن في العراق وسوريا، على سبيل المثال لا الحصر، دليل ساطع على أن منطق الحروب والجغرافيا لا يمكنه أن يتحكم بمفرده في أبجديات السياسة، وفي قوانين ومقتضيات الاجتماع البشري، فقد أسهمت الانتصارات العسكرية التي حققها الجيشان العراقي والنظام السوري في تراجع غير مسبوق في الصلات المجتمعية التي تربط ما بين مكونات الشعبين في كلا البلدين.
ويؤكد برتراند بادي في هذا السياق، أن ظاهرة تحول الحروب إلى مواجهة مجتمعية بدأت مع الثورة الفرنسية، بعد أن كانت مجرد حروب تواجه فيها الممالك والدول كيانات ممثلة لها، بعيداً عن المجتمعات التي كان الأفراد فيها لا يتمتعون بحقوق المواطنة، ولا يعتبرون أنفسهم معنيين بصراعات الحكام المتعلقة بالسيادة على الجغرافيا السياسية. أما الآن، وبعد أن تحوّل الصراع ما بين الدول إلى حروب ما بين المجتمعات، فقد تحوّلت أيضاً الحروب الداخلية من أجل بسط السلطة، إلى مواجهة داخل المجتمع الواحد الذي يجمع بداخله مختلف المكونات الفسيفسائية للشعوب في الدول الوطنية.
ومن منطلق الفرضية التي أشرنا إليها سابقاً والتي تؤكد أن النصر العسكري لا يمكن أن يكون كافياً وحده من أجل تحقيق الفوز السياسي، فإن عامل القوة في السياسة هو عامل اصطناعي لا يمكنه أن يعدِّل، أو يغيّر بشكل جذري العوامل الطبيعية التي تتحكم في الأنساق الداخلية للمجتمعات.
وإذا كانت الأمم تحتاج، في حالة الحروب ما بين الدول، من أجل تدعيم وحدتها ورص صفوفها، إلى ترسيخ صورة العدو، فإن مثل هذا السيناريو يتحوّل بالضرورة إلى كابوس مجتمعي، عندما تحدث المواجهة العسكرية داخل الدولة والمجتمع الواحد، لأن مسارات المصالحات المجتمعية تتسم بتعقيد كبير، بخاصة في حال اندلاع الحروب الأهلية التي تسهم بشكل لافت في تضخّم الاختلافات الناجمة عن الاستقطاب الهوياتي المرتكز على الأبعاد الطائفية والعرقية والعشائرية.
ونستطيع أن نلاحظ بالنسبة للحالة العراقية، أن نسيج العلاقات المجتمعية بين سكان بلاد الرافدين قد تعرض لأضرار جسيمة منذ الغزو الأمريكي سنة 2003 ، حيث إنه، وإضافة إلى سيادة الثقافة الانفصالية في منطقة كردستان منذ عقود من الزمن، فإن العلاقات ما بين بقية المكونات الطائفية والعرقية المشكِّلة للمجتمع العراقي، عرفت تحولات كبرى بعد انتشار المجموعات الإرهابية التي لعبت دوراً خطيراً في القضاء على أواصر المحبة، والإخاء ما بين أفراد الشعب العراقي، وأسهمت في تراجع أعداد بعض الأقليات الدينية، مثل الطائفتين الأيزيدية، والصابئة المندائيين. وأدت بعد ذلك معارك تحرير الأراضي العراقية من تنظيم "داعش" من طرف الجيش العراقي المدعوم من ميليشيات الحشد الشعبي، إلى خلق وضعية غير مسبوقة من التوتر الطائفي بين المجموعات السكانية الكبرى في مختلف المحافظات العراقية.
أما بالنسبة للحالة السورية، فإن الوضعية العامة لا تختلف كثيراً، حيث إنه، وبالرغم من النجاحات التي حققها الجيش النظامي في معاركه من أجل استعادة مناطق واسعة من التراب السوري من المعارضة، ومن التنظيمات الإرهابية، بدعم وإسناد مباشر من الطيران الحربي الروسي، إلا أن النسيج المجتمعي السوري يواجه هو الآخر تحديات كبرى، فالاحتقان الطائفي والعرقي والمناطقي لا يزال على أشده، ولن يكون تواجد الجيش عبر كامل الجغرافيا السورية كافياً لوحده لاستعادة الوحدة الوطنية. ومن المستبعد بالتالي، على الأقل في المرحلة الراهنة، أن يُسهم الحسم العسكري في تحقيق نصر سياسي للنظام، لأن مكوِّنات المجتمع التي كسرت حاجز الخوف بعد تقديمها للكثير من التضحيات المؤلمة، لن تقبل بعودة الأمور إلى سابق عهدها.
لقد انفرط ما يمكن الاصطلاح على تسميته بالعقد المجتمعي داخل سوريا والعراق، عقد يمكننا أن نزعم أنه يختلف عن العقد الاجتماعي المتعارف عليه في أدبيات الفكر السياسي المعاصر، لأنه يتجاوز حدود الشراكة السياسية التي يمكن أن نفترض وجودها ما بين الحكام والمحكومين. إنه عقد يمس بشكل مباشر عمق وبنية النسيج الهوياتي للمجتمع، لكونه يعتمد في المقام الأول على الروابط التاريخية والأسرية والمجتمعية، وليس على عنصر التوافق السياسي ما بين المجموعات السكانية؛ وهي روابط قد تستغرق عملية بنائها وترسيخها قروناً من الزمن، وفي حال ضياعها لن يكون من السهل استعادتها اعتماداً على قرارات سياسية فوقية.