الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "العسكرتاريا" العربية باقية وتتمدّد

"العسكرتاريا" العربية باقية وتتمدّد

13.06.2019
عبد اللطيف السعدو ن


العربي الجديد
الاربعاء 12-6-2019
إذا كان الاعتراف بالخطأ فضيلة، فإن على العراقيين أن يعترفوا بأنهم أول من شرعن "الانقلاب العسكري" طريقاً للتغيير في العالم العربي، وأول من تورّط في ارتكاب الخطيئة الكبرى في مواجهة أنظمة الحكم المدنية، وبعضهم كان أول من صفّق لضابط يضع النياشين على صدره، طارحاً نفسه مدافعاً عن حقوق الشعب، على خلفية أن حكومة بلاده لم تعد تهتم بمصالح المواطنين ورفاههم.
كان ذلك قبل ثمانين عاماً، عندما ألقت الطائرات التي سيّرها الفريق بكر صدقي على سكان بغداد بيانه الأول باعتباره "قائد القوة الوطنية الإصلاحية"، داعياً "أبناء الشعب المخلصين" إلى مؤازرته في مطالبته الملك غازي بإقالة حكومة ياسين الهاشمي، وإسنادها إلى مرشح الجيش حكمت سليمان، وقرن ذلك بإبلاغ الملك أن عدم الاستجابة لمطلبه سيدفعه إلى تنفيذ ما يريده بقوة السلاح. وعندما انفجرت أول قنبلة في بغداد، أمسك الملك بالقلم، ليطلب من الهاشمي الاستقالة، ومن سليمان تشكيل حكومة جديدة، وليعين الضابط المتمرّد رئيسا لأركان الجيش الذي سرعان ما انفتحت شهيته على السلطة، ولم يكتف بالمهام والصلاحيات التي يوفّرها له منصبه فقط، بل اتخذ لنفسه موقع "الرجل الأول"، وأخذ يطرح الإجراءات التي يفرضها في غير مرفق وميدان، حتى أصبح لما يقوله قوة القانون، ولكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ تعرّض للاغتيال على أيدي خصومه، بعد عام واحد فقط على توليه المسؤولية.
تلك كانت الحكاية التي حفظها التاريخ عن ولادة التدخل المباشر للعسكرتاريا العربية في شؤون السياسة وإدارة البلاد. وفي الوسع هنا أن نرى كيف تعلم العرب الآخرون منها. العسكريون السوريون انتقلت إليهم العدوى بعد عشر سنوات، إذ قاد رئيس الأركان، حسني الزعيم، تحرّكا عسكريا على وقع الأزمة الحكومية التي عانت منها سورية بعد النكبة الفلسطينية. وكشف مايلز كوبلاند في مذكراته "لعبة الأمم" أن الزعيم لم يكن في وارد القيام بانقلاب، إنما "المخابرات
"العسكريون السوريون انتقلت إليهم العدوى بعد عشر سنوات، مع انقلاب حسني الزعيم عام 1949"  المركزية" هي التي حرّضته على ذلك، ووضعت له خطة الانقلاب بالكامل، وبعد أقلّ من عام، سقط الزعيم صريعا ضحية انقلابٍ آخر، قاده أحد مساعديه، ثم توالت الانقلابات على النحو المعروف.
وفي مصر، تحقق صعود "العسكرتاريا" إلى السلطة على خلفية هزيمة الجيوش العربية في فلسطين، إذ تحرك جمال عبد الناصر وجماعته في تنظيم الضباط الأحرار، وقبض على السلطة في لحظةٍ دراماتيكية فارقة، شارعا في تحقيق انعطافة تاريخية، حقق من خلالها لشعب مصر مكاسب كثيرة، وأعاد لها عروبتها، كما وجد العرب في المحافل الدولية، من خلال مصر، شخصيتهم التي افتقدوها زمانا، لكن تلك "الانعطافة" الثورية أخفقت في إرساء دعائم دولة ديمقراطية مدنية، توفر لمنجزاتها الاستمرار والنمو. واستغلت العسكرتاريا "عقب أخيل" هذا، بعد رحيل عبد الناصر، لتتوغل في المجتمع، وترهن مؤسسات الدولة لصالحها.
وفي ليبيا، أراد العقيد معمر القذافي استنساخ تجربة عبد الناصر، ورأى في نفسه خليفته في العالم العربي، كما طرح نفسه "أمينا للقومية العربية"، وقد مارس نهجا دكتاتوريا صارما أزيد من أربعة عقود. وبعد رحيله، تصاعدت دوامة التنافس والصراع على إدارة البلاد على نحوٍ لم يحفظ لليبيا وحدتها، ولم يوفر لها القدرة بعد على إرساء معالم وضع داخلي مستقر.
وفي الجزائر، أعطت حرب التحرير للعسكر "الشرعية" للاستحواذ على السلطة بعد الاستقلال، وقد تآكلت تلك "الشرعية" بمرور الزمن، وبفعل سلوك العساكر أنفسهم الذين أدمنوا تدبير الانقلابات في ما بينهم، وقد ظلت سيطرتهم على مقاليد القرار قائمة، وما يجري أمامنا اليوم من مشاهد الشد والجذب بين قيادة الجيش والحراك الشعبي يوحي أن القبضة العسكرية على البلاد لن تتراخى، إنما هي باقية وتشتد!
وعساكر السودان هم أيضا مثل أقرانهم الآخرين، ركبوا الموجة، وقبضوا على السلطة معظم السنوات التي أعقبت الاستقلال. الوحيد الذي عرف حده، وأدرك قدره، هو الراحل عبد الرحمن سوار الذهب الذي تخلى عن السلطة باختياره، وانصرف إلى حاله مبكرا، محققا وعده بتسليم السلطة للمدنيين، لكن خلفاءه عادوا، هذه الأيام، يعضّون على كراسي الحكم بالنواجذ، ولم يقبلوا أية حلول، باستثناء بقائهم الدائم على الكراسي، حتى لو أدّى الأمر إلى سقوط مئات الضحايا!
خلاصة الخلاصة أن العسكرتاريا العربية باقية وتتمدّد، وهي مستعدة لأن تشرع الأبواب أمام الغريب والقريب، من أجل أن يضمن لها سلطتها، ويحميها من غضبة شعوبها، ومن يعش ير.