الرئيسة \  تقارير  \  الشرق الأوسط في زمن التحولات .. تحالفات القوة الناعمة أم مواجهة الهيمنة الصلبة؟

الشرق الأوسط في زمن التحولات .. تحالفات القوة الناعمة أم مواجهة الهيمنة الصلبة؟

17.06.2025
عدي محمد الضاهر



الشرق الأوسط في زمن التحولات .. تحالفات القوة الناعمة أم مواجهة الهيمنة الصلبة؟
عدي محمد الضاهر
سوريا تي في
الاثنين 16/6/2025
يشهد الشرق الأوسط في الوقت الراهن مرحلة مفصلية تتسم بإعادة تشكيل موازين القوى وتداخل المصالح الدولية والإقليمية، وسط تراجع واضح لدور بعض الفاعلين وصعود نسبي لآخرين. غير أن هذا التحول لا يمكن قراءته من زاوية تقليدية تعتمد على نظريات العلاقات الدولية الكلاسيكية، فهذه النظريات كثيرًا ما تعجز عن تفسير الخصوصية الجيوسياسية للمنطقة.
منطق التوازن التقليدي
في السياقات الغربية، يُفترض أن النظام الدولي يعمل على أساس توازن القوى بين الفاعلين. إلا أن هذا المنطق يتعطل عند إسقاطه على مشهد الشرق الأوسط. فبدلًا من تحقيق توازن مستقر، تسود المنطقة ديناميكيات كسر التوازن وإعادة تشكيله قسرًا عبر فرض واقع جديد يكون فيه الطرف الأقوى – سياسيًا وعسكريًا – هو من يحدد معايير اللعبة.
في هذا السياق، تُبرَز إسرائيل من قِبَل القوى الغربية كقوة مركزية لا غنى عنها لضمان الاستقرار النسبي في منطقة الشرق الأوسط، وهو طرح يُحاكي إلى حدّ كبير صورة الولايات المتحدة كقطب أوحد في النظام الدولي. هذا التمركز الإسرائيلي في قلب معادلات القوة يتم تعزيزه عبر التفوق التكنولوجي والعسكري والاستخباراتي، إضافة إلى شبكة علاقات ممتدة تشمل تطبيعًا متسارعًا مع عدد من العواصم العربية، ما يمنحها غطاءً شرعيًا يتجاوز البعد الأمني.
تركيا والسعودية: قوتان متمايزتان ضمن المساحة الرمادية
رغم محاولة بعضهم قراءة تراجع الدور الإيراني كنتاج مباشر لصعود قوى إقليمية مثل تركيا والسعودية، إلا أن هذا التفسير يتسم بالتبسيط. فتركيا، على الرغم من حضورها الجيوسياسي المتزايد، تواجه تحديات اقتصادية بنيوية تجعل من قدرتها على الاستمرار في ماراثون النفوذ الإقليمي محل تساؤل. ومع ذلك، فإن تموضعها الذكي داخل فضاء المصالح الأميركية لا سيما في الملفات الأمنية والطاقة يمنحها هامشًا معتبرًا من التأثير، ولو كان محدودًا بحجم اقتصادها المتقلب.
أما السعودية، فقد اختارت طريقا مختلفا يتمثل في دبلوماسية مرنة وواقعية، قادرة على التكيف مع المتغيرات، مع تركيز واضح على الاستثمار في الاستقرار والتنمية. فهي لا تسعى إلى تصدير أيديولوجيا أو فرض هيمنة فكرية، بل إلى بناء شرق أوسط جديد يسوده السلام والنمو الاقتصادي، وهو توجه يلقى قبولًا متزايدًا إقليميًا ودوليًا.
نحو تحالف إقليمي يوازن الهيمنة
السؤال المحوري الذي يُطرح اليوم هو: كيف ننتقل إلى مرحلة القوة الحقيقية؟
الجواب لا يكمن في سباق تسلح جديد أو اجترار شعارات راديكالية، بل في بناء تحالف إقليمي جماعي، يضم السعودية وتركيا ودول الخليج ودول الطوق (الأردن، مصر، سوريا ولبنان) تحالف يتجاوز التباينات الثانوية ويوحّد المصالح الأمنية والاقتصادية تحت مظلة استراتيجية واحدة.
الجواب لا يكمن في سباق تسلح جديد أو اجترار شعارات راديكالية، بل في بناء تحالف إقليمي جماعي، يضم السعودية وتركيا ودول الخليج ودول الطوق (الأردن، مصر، سوريا ولبنان)
مثل هذا التحالف يمكن أن يشكل نقطة ارتكاز جديدة لتوازن قوى حقيقي في المنطقة، توازن لا يتحدى إسرائيل فقط، بل يعيد ضبط العلاقة مع القوى الدولية الكبرى، ويوفر بديلًا عمليًا للنظام الإقليمي المتهالك. إذ إن القوة هنا ستكون جيوسياسية، اقتصادية، عسكرية وناعمة في آن واحد، قادرة على التفاوض من موقع الندية، لا التبعية.
إيران.. نموذج يجب تجاوزه
في المقابل، فإن النموذج الإيراني في إدارة النفوذ الإقليمي يبدو أنه بلغ نهايته. لقد اعتمدت طهران على سياسة منفردة ومتغطرسة، وظفّت أدوات طائفية للتمدد داخل دول المنطقة، تحت راية "مقاومة إسرائيل"، لكنها في الواقع أنهكت اقتصادات وشعوبًا، وزرعت الفوضى والاقتتال الأهلي.
ظنّ النظام الإيراني أنه قادر على ابتلاع المنطقة، متجاهلًا التحولات الدولية ومصالح القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي وإن تغاضت لفترة عن تمدد طهران، فإنها لم تكن لتقبل يومًا أن يتحول ذلك التمدد إلى واقع دائم. ويبدو أن المرحلة المقبلة تشهد بداية تفكيك هذا المشروع، وتهيئة المجال أمام فاعلين جدد يتسمون بالمرونة والواقعية.
نموذج إيران بدأ بالتشكل بعد الفراغ الذي خلّفه سقوط نظام صدام حسين عام 2003، وقد سمحت له الولايات المتحدة بالتمدد في إطار سياسة "ملء الفراغ". لكن اليوم، يتكرر المشهد بشكل مختلف، إذ أن القوى الدولية تسعى إلى تعزيز استقرار شامل لا يسمح بإعادة إنتاج الهيمنة تحت شعارات جديدة.
المستقبل لمن يتحكم بالقوة الناعمة
المرحلة المقبلة ستتسم بانتقال ميزان التأثير من القوة الصلبة (العسكرية) إلى القوة الناعمة المسالمة، المتمثلة في الاقتصاد المستقر والعلاقات الدولية المتوازنة والمشاريع التنموية العابرة للحدود، مع التأثير الثقافي والإعلامي المدروس. فالقوة في المستقبل لن تكون لمن يملك أكبر عدد من الصواريخ، بل لمن يستطيع بناء شبكات مصالح تحاكي منطق الاقتصاد العالمي وتتكامل معه. من يتقن هذا النموذج، يستطيع فرض نفسه كفاعل إقليمي ودولي فاعل، أما من يصر على سلوك طريق الهيمنة والصدام، فسيجد نفسه معزولًا أو هدفًا مباشرًا في مواجهة قادمة.
إننا أمام مشهد جديد قيد التبلور في الشرق الأوسط، تتحدد فيه مواقع اللاعبين لا بناءً على الشعارات أو موازين العسكر فقط، بل على أساس القدرة على خلق بيئة مستقرة، متطورة، متصلة بالعالم، ومحترِفة للعبة التوازنات.
الفرصة متاحة اليوم أمام الدول العربية وتركيا لتقديم بديل إقليمي متماسك يضع حدًا لعقود من الاستقطاب والتدخلات. وإذا لم يتم التقاط هذه اللحظة التاريخية، فقد نجد أنفسنا بعد عقد من الزمان أمام صراع عسكري منفرد جديد، طرفه الأول دولة تتوهم أنها قادرة على ابتلاع المنطقة، وطرفه الآخر وكيل غربي إسرائيلي يفرض نفسه مجددًا كصاحب الحل والربط.