الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الدولة العميقة في مواجهة المشروع الإنساني العربي (الربيع العربي نموذجا)

الدولة العميقة في مواجهة المشروع الإنساني العربي (الربيع العربي نموذجا)

16.04.2019
فواز المطلق


القدس العربي
الاثنين 15/4/2019
اتسعت خلال السنوات الأخيرة من عمرنا الحالي، ظاهرة استباحة المجتمع العربي بمشروعه الإنساني، وصولا إلى محاولات تهميشه، وحتى تهديده بالاندثار الفكري، باعتبار أن كل ثورة هي مشروع وتطلع إنساني لما هو أفضل.
كشفت التحولات السياسية والاجتماعية المرافقة لحراك الربيع العربي في مشروعها الساعي إلى التغيير في وجه السلطات والأنظمة الحاكمة، عن وجود مشروع بديل ودفين، وفي حالة سبات، لكنه مهيأ وجاهز للاستخدام، ليتم تفعيله في وجه أي حراك شعبي، سواء كان سياسيا أو اجتماعيا، وليكتشف بعدها الإنسان العربي بأن مشاريعه النهضوية (الرسمية) المعلن عنها من قبل حكوماته وإعلامه الرسمي سابقا، ما هي إلا مشاريع وهمية لكسب الوقت ولضرورة استمرار ووجود هذه الأنظمة، وأنها لم تكن إلا مشاريع سلطوية – نخبوية مكنت فقط المصفقين النخبويين لهذه الأنظمة من الاستفادة والربح، على حساب قواعد شعبية كانت تصفق للعدم، لذلك وظفت الحكومات العربية المتهالكة، بعد حراك الربيع العربي، مشروعها وخططها البديلة القائمة على إحياء التطرف السياسي أو المذهبي أو الإثني أو القبلي، وحتى المناطقي كما في سوريا وليبيا واليمن، ومن قبلها في العراق ولبنان، حسب نوعية التركيبة الاجتماعية والسكانية، لنتفاجأ بترسبات ضخمة للأنواع المختلفة من التطرف، التي كانت كامنة في السيكولوجيا الوجدانية للإنسان العربي، ليتم بعث الروح فيها من جديد، وإعادة تدويرها ثم استثمارها، وليتضح في ما بعد أن (الثورات الوطنية) التي أسست لمشاريع قيام دول- مدنية وعلمانية- بعيد الاستقلال من الكولونيالي في النصف الثاني من القرن الماضي، لم تنجح أصلا في محو وإزالة هذه الترسبات، وإنما بقيت في حالة سبات ليتم احياؤها وبعثها في ما بعد، من قبل الأنظمة الحاكمة كمشروع بديل ومضاد لحركات التغيير المعاصرة ولهدم المشروع الإنساني العربي الذي وجب عليه أن يلتقي ويتحد مع المشروع الإنساني الشامل في تطور الإنسانية والعالم. فكيف استغلت الدولة العميقة الرواسب الاجتماعية – الوجدانية واستثمرت في العقل الباطن؟
لم تخل آلة الإعلام العربي الرسمي وعلى مدى عقود طويلة من الاستمرارية في التأكيد والتكرار البافلوفي، على العداء الغربي لكل أشكال المشاريع النهضوية الوطنية، على اعتبار أنها ستشكل تهديدا للغرب، من خلال التساوي والمنافسة في التطور والحضارة بين العربي والغربي، ومثلما يشير الكاتب هاني نسيرة في كتابه "أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار" بالقول "هذه النهضة التي تجاذب مسارها دائما اتجاهان منذ البداية: اتجاه راديكالي يرى في الخارج شرا محضا لا يأتي بخير، ويحرم اقتباس أي شيء منه، مضيفا أنه أصل كل مشاكلنا، وأن مؤامراته علينا هي ما أودت بنا إلى ما لا نرضاه ونعيش فيه. واتجاه إصلاحي لا يلقي المسؤولية على غيرنا، رغم تحفظه على كثير من ممارسات الآخر، الا أنه يفرق بين خيره وشره، يفرق بين الاستفادة من تجربة تفوقه وأطروحاته في تجاوز جمودنا وتخلفنا، وبعض أو كثير من ممارساته التي لم يستهدف بها سوى مصلحته وإن أصابتنا بالضرر". وبذلك يجد المتلقي غير النخبوي – وهو الأكثرية – نفسه أمام مشاريع غربية تدميرية تستهدف تدمير الدولة الوطنية، حسب تربيته الحزبية والإعلامية، لأن الغرب أيد مسيرات الحراك العربي أو الربيع العربي، ليجد فيها صفقة مشبوهة تستهدف هويته (المنتفخة) نتيجة ضخ إعلامي متواصل أقنعه بالمظلومية التي تمارس على مشروعه الوطني وهويته القومية.
كان ذاك من الخارج أما من الداخل، وكما هو معروف فإن المجتمعات العربية تصنف بشكلها العام بأنها مجتمعات تاريخية، وبأنها تستكين دائما وتشعر بالدفء في تاريخها فقط، أي بمعنى أن التاريخي مقدس وغير قابل للتفاوض، وبأن أي شكل من أشكال التغيير هو مسخ للهوية الدينية والتاريخية المرتبطة بشكل أو بآخر بالهوية الوطنية والقومية الحالية، لذلك رأينا كيف أن مفهوم ومصطلح الحداثة فرض سجالا طويلا بين مؤيد ومعارض وما زال، ما دعا وسائل الضخ الإعلامي الرسمي إلى تفعيل وتسويق الرفض في التغيير الثوري لدى المتلقي العربي، باعتبار أنه تهديد لأخلاقيات المجتمع والهوية والقومية حصرا، وهذا التصور لم يغب أصلا عن تشخيص العلاقة والريبة بين الشرق وبقية العالم، منذ ظهور مفهوم الاستشراق بمعناه الشامل، والريبة التي احاطت به كفعل سيطرة وتسلط، مثلما أشار كثير من الكتب الدارسة لمفهوم الاستشراق وتأثيراته. ومثلما يشير كتاب "الاستشراق" لمحمد فتح الله الزيادي بالقول "معظم تعاريف الاستشراق لم تخرج بالعلاقة هذه عن اطار التعرف أو التسلط, وأن الاستشراق هو محاولة التعرف على الشرق في اطار عام يتناول شرقا واسعا لا تحده الديانات أو القوميات، أو في اطار خاص يكون الاسلام محوره والعروبة أداته، ويمكن أن يكون الاستشراق وسيلة أيضا من وسائل السيطرة والتحكم في الشرق".
تعول شعوب العالم عادة في نزاعاتها الداخلية مع أنظمتها وسلطاتها على مواقف اليسار، وبالوقت نفسه فإن اليسار يجد نفسه وحاضنته بين الجماهير، يستمد منها ثقته ويمدها بقوته، غير أن لليسار العربي شأنا آخر، فهو على الأغلب يتكئ على السلطة، ويستمد منها امتيازاته الحزبية، أما خطاباته وشعاراته فهي عصية على الفهم، سواء للشعب أو حتى للسلطة، وفي هذا السياق فإن الكاتب والمفكر الفلسطيني سلامة كيلة الذي يعد من أبرز الكتاب العرب في الماركسية واليسار يقول في كتابه "اليسار العربي في أفوله": "اليسار العربي في أزمة، هذه مسألة باتت قديمة، لأن اليسار بات يتلاشى، فيتحول إلى أحزاب هرمة ذات سياسات تميل إلى المهادنة والتكيف مع الأمر الواقع، والقبول بأقل القليل، وربما هذه المسألة باتت قديمة كذلك، لأن هذا اليسار تجاوز المبادئ التي تجعل منه يسارا، إن سياساته في المهادنة وقبوله الأمر الواقع هما ما جعلاه يتجاوز المبادئ التي تجعله يسارا، وبالتالي إلى أن يتهمش وينزوي خلف اليمين". هذا التوصيف ينسحب بالدرجة الأولى على الأحزاب الشيوعية في سوريا والعراق وتونس مثالا، التي تعد نخبة الشيوعية في العالم العربي، خاصة بعد حراك الربيع العربي، ورغم نخبويتها فإنها في حالة انكسار دائم أمام صناديق الانتخابات، حتى على ادنى مستويات المناصب السياسية التي تترشح لها، مقارنة مع الصدارات التي تحققها التيارات والاحزاب السياسية الدينية، بدءا من المغرب العربي وانتهاء بالعراق، مع الإشارة إلى أن الأنظمة العربية تعمل دائما على توظيف التصادم والتضاد بين هذين التيارين، وانهاكهما لصالح استمرارية الدولة العميقة، وهذا بحد ذاته وجه من وجوه التطرف السياسي ورفض الآخر والاستثمار بالمخاوف. أما بالنسبة للبعض من المثقفين اليساريين فالأمر ليس بعيدا عن شكل ومهمة الأحزاب اليسارية في تعاطيها مع حراك الشعوب العربية، فهي مواقف مرتهنة ومرتبطة بالطائفة أو المحاصصة في المصالح، وخير مثال على ذلك الشاعر السوري (أدونيس).
يحدد المفكر الفرنسي أولفييه روا في كتابه "الجهل المقدس.. زمن دين بلا ثقافة" ظاهرتين تلعبان دورا رئيسا في طفرة التيارات الدينية، وهما زوال الصفة الإقليمية وفقدان الهوية الثقافية، وهو ما ثبت فعليا في شكل ونوع التيارات والحركات الجهادية المتطرفة، التي التقت واجتمعت خارج حدود المكان والهوية بعد قيام الربيع العربي، مثالا على ذلك العراق وسوريا ثم ليبيا، وهو توصيف محكم اذا ما تحدثنا عن الدين بكليته، أما في الحديث عن الاسلام بالذات فإن له طفرة إضافية مرتبطة بشكل خاص بالجنوح إلى التطرف، لذلك فإن هناك ظاهرة محلية لا بد من إضافتها إلى الظاهرتين السابقتين في هذا السياق، وهو أن قيام الأحزاب الشمولية واستيلائها على السلطات لأجل مفتوح في أغلب الدول العربية ـ الاسلامية ومن ثم فشلها في قيام دولة مدنية بشكلها الحضاري المطلوب، فتح مجالا واسعا للحركات الدينية الإسلامية لتطرح نفسها بديلا قويا عن أنظمة سياسية فاشلة، وهذا ما يفسر الارتباط الوثيق لولادة حركات التطرف الاسلامي في الدول ذات السياسة الاستبدادية.
الإعلامي الرسمي يفعل ويسوق الرفض في التغيير الثوري لدى المتلقي العربي باعتباره تهديدا لأخلاقيات المجتمع والهوية والقومية حصرا
ومن هذه النتيجة عملت قيادات الأنظمة الشمولية بعد الربيع العربي للاستثمار في هذا الجانب بما يخدم بقاءها واستمرارها، بتقديم الحركات الدينية بكافة أشكالها على أنها شكل سياسي متخلف، يهدف إلى ابتلاع ما هو مدني ومنجز، والتهام كل ما هو حضاري، وهو ما يتطلب التفافا جماهيريا سريعا حول القيادة والنظام، لصد هذا الهجوم، وهذا كان الجانب الرسمي الأول في الاستثمار في الدين، أما الاستثمار الثاني فهو الدفع باتجاه دعم الأقليات الطائفية والمذهبية، والعمل على توحيدها بوجه (المارد) المقبل لالتهامها وابتلاعها، وهي موجودة أصلا في الوجدان الاجتماعي الكامن، وليس لها بالنتيجة خيارات واسعة سوى التصديق والالتزام بسياسة الأمر الواقع المفروض عليها والانسياق تحت رغبة هذه الأنظمة، وأمام هذه النتيجة ندرك تماما أن كل أشكال الأنظمة السلطوية العربية المتتالية، رغم قلتها لم تستطع أو لم تهدف جديا إلى محو وصهر الهوية المذهبية في بوتقة الدولة المدنية بعيد الاستقلال، وهذا ما بدا جليا في سوريا ومصر وليبيا وتونس مؤخرا، وكذلك العراق ولبنان سابقا، حتى أنه في مصر بلغ التوظيف في هذا المجال للوصول إلى انقلاب عسكري شامل.
لا تتوانى الأنظمة الشمولية والاستبدادية عن توظيف كل ما يمكن توظيفه من أجل بقائها واستمرارها بما فيها القبيلة، فالقبيلة هي البيئة التي يمكن تخصيبها سياسيا بسرعة ووقت الضرورة، ذلك أن التكوين المعرفي لها لا يصل إلى العمق، بل يستند إلى ما هو شفوي ومحكي، ومتغير ومرتبط أصلا برأي الشيخ أو زعيم القبيلة الذي تستمد منه كل المواقف، حتى لو كان أبناء القبيلة الواحدة ينتمون إلى أحزاب سياسية مختلفة، فهي بالنتيجة أحزاب شكلية منضوية تحت جناح حزب قائد وشمولي، وتختلف فاعلية القبيلة من دولة عربية إلى أخرى، حسب الهامش الذي تحدده الدولة والحاجة الفعلية لها. وقد أرتبط توظيف الدولة لهذا الشكل الاجتماعي في مواجهة الحركات الشعبية مؤخرا، من خلال احتواء العاطلين عن العمل في القبيلة وتنظيمهم في وحدات رديفة للجيش أو الأجهزة الأمنية، خاصة لشريحة أبناء القبائل المنتشرة في الأرياف، حيث تتسع ظاهرة البطالة وتتزايد ملامح الفقر والحاجة، وقد أخذت تشكيلاتهم الرديفة مسميات مختلفة منها ما سمي بالحشد الشعبي، كما في العراق الذي تتقاطع فيه الأهداف المذهبية مع الدور القبلي، وفي سوريا فقد سمي بالدفاع الوطني, وفي اليمن سمي بالمقاومة الشعبية، أما في ليبيا فالأمر لا يخلو من الاعتباطية في تكون المليشيات المختلفة، وهي ميليشيات تأسست على أسس قبلية ـ جهوية وعلى أيديولوجيات راديكالية غير واضحة، غير أن الصفة الجامعة لأغلبها في ليبيا، هو عدم وجود وضع قانوني واضح لها وتلعب المصالح الاقتصادية دورا أساسيا في تحريكها وتوجيهها. بالنتيجة فإن ما يجمع هذه الحركات القبلية بشكل عام هو مساندتها للدولة العميقة، سواء بوعي وفهم سياسي أو بدونه، حيث تمكنت أنظمة هذه الدول المختلفة من الحفاظ على شكل القبيلة وإعادة تدوير دورها من الاجتماعي إلى السياسي.
صحافي سوري