الرئيسة \  مشاركات  \  الخَيَّاطَةُ

الخَيَّاطَةُ

15.01.2024
د. محمد غسان الخليلي




الخَيَّاطَةُ
د. محمد غسان الخليلي
   أذكر منذ نعومة أظفاري أن أمِّي – حفظها الله- كانت ماهرة في الخياطة، وكان أبي مدرساً لأعوام طويلة؛ حتى إنه درَّسني طوال الصف الأول الابتدائيِّ. ثم خطر ببال والدي – رحمه الله- أن يختطَّ إلى جانب التعليم مهنة موازية ليعتاش منها؛ فالمعلم في بلادنا العربية التي تُصنف من الدول الثالثة عشرة هو الأَقل حظاً في الشرائح المجتمعية، وذلك عكس بلاد العالم الأول والثاني والثالث؛ على الرغم من أن المعلم هو الذي يُخرِّج المدير والوزير، ويعلم الأمير والفقير!
    تمَّ الاتفاق بين أمي أمينة وأبي غسّان على أن تكون المهمة المضافة للتعليم ورعاية الأبناء هي مهنة الخياطة والحياكة؛ فابتاع والدي ماكينتين منزليتين لذاك؛ فأمِّي كانت تحيك وتخيط، وأبي يسوِّق المنتجات ويشتري المواد الخام.  وكنا في البيت قد شكَّلنا مجموعة عائلية للعمل؛ وكلٌّ في فلكٍ يخيطون.
     واستمر هذا العمل الدؤوب تسعة عشر عاماً جميلاً؛ منها سنوات طويلة ممضة كانت أمي تحمل بين جنبيها أجنَّة ثم ترضعهم وتربيهم، وهي تقوم بهذا العمل الخياطيِّ السَّامي.
    ومذ كنت يافعاً بدأت المتاعب البصرية عندي، ثم راحت تتعاظم؛ إلى أن شُخصت بعد أكثر من خمسة عشر عاماً كبيساً بأنها وصبٌ في القرنية، سُمِّي "القرنية المخروطية".
     كانت العدسات اللاصقة في تلكم الأَيام سحراً يخفف من لأواء المخروط ويرفع حدة البصر، ولكنه مؤلم في الوقت ذاته؛ لأن العدسة جسم غريب، والعين ترفض أي غازٍ لأرضيها.
   لذا قررتُ مع نهايات سنة 2000 وكانت شديدة البرودة أن استزرع قرنية بشرية بدل المخروطية المزعجة؛ وقد جُلبت لي من بلاد العم سام؛ وقيل لي يومها إنّ "خيَّاطاً" حاذقاً سيقوم بهذه المهمة الدقيقة؛ وقد كان ما كان، وتمت الصداقة بين العين المضيفة والقرنية المضافة دون حروب تشاكسية بينهما؛ لأن بعض العيون
- كما أسلفت آنفاً- ترفض الغازين.
    عاشت العين وضيفتها المزروعة مدة ستة عشر عاماً جميلة في تناغم موسيقي رتيب ... ثم ما لبثت أن نشبت بينهما حرب شعواء، فانزوى جانب من القرنية مكتئباً حزيناً، وتقوقع على نفسه ليشكل تشوهاً في شكل القرنية الأصلي البديع. ثمّ ما لبثت أن تداعت الأكلَة إلى قصعة هذه العين المسكينة؛ فَسَرَت في يمناي ماء بيضاء كاشحة، ثم انفرط جزء من عِقد السائل الزجاجي ليشكل بقعا سوداء قبيحة ومؤذية تُسمى "بالذباب الطائر"؛ لتمسي العين مصدر ألم ممضٍّ، ومحطَّ إزعاج ليل نهار ... حتى في أوقات النوم التي من المفروض أن تضع فيها الحرب أوزارها مؤقتاً بين المتحاربَيْن في سواد الليل المدلهم؛ في هدنة تعرفها كل جيوش العالم المتحاربة! وأخيرا - وليس آخراً- حلَّ ضيف رابع أكثر كشحاً ولؤماً؛ ألا وهو ارتفاع ضغط العين اليمنى؛ ولله الحمد من قبلُ ومن بعد.
   تعددت الآراء الاستشارية في حل هذه المشكلة الدولية المستعصية على مجلس الأمن والأمم المتحدة وكل المحافل الطبية؛ حتى خُيِّل لي من شدة سحرها وبغضها أنها أعقد من الصراع الفلسطيني الصهيوني، أو أشدَّ تنكيلاً!
   ولكن رأي نطاسيتَيْن للعيون ماهرتين أجمعا على أن القرار الفصل لا بد أن يكون في عيادة "الليزيك" في مدينة الحسين الطبية في عمَّان؛ حيث تترأس طبيبة بارعة في استصلاح القرنيات هنالكم، ومشهود لها بالطب والإنسانية معاً، فكم من طبيب فقط؟!
   ذهبتُ وزوجتي هناك دون ضرب موعد؛ فالمواعيد في هذا المكان جِدُّ صعبة؛ قائلاً لزوجي: نضرب هذا السَّهم الأَخير من كنانتنا؛ فإن أصاب فنِعِمَّا هو، وإنْ طاشَ - لا سمح الله -، فلي شطر جنَّة؛ لأن الحبيب المصطفى وعد من يفقد حبيبته في الدنيا، ويصبر على عماهما بالجنَّة.
    لقد كان من على شباك الدخول لتلكمُ النَّطاسيَّة فظَّاً غليظ القلب؛ وإنْ كدت لَأَنفَضُّ من حوله بسبب تعنُّته لعدم وجود موعد دور مسبقٍ معي في مراجعة هذه الطبيبة، لولا أنْ رأيت برهان ربي؛ فقد كانت هذه الجميلة الجليلة تسمع تحاورنا، والله يسمعنا من فوق سبع سماوات تحاورَنا.
    أدخلتني إلى عيادتها دون أية أوراقٍ ثبوتية؛ كظنين قارف جرماً واقتيد إلى الشَّرِطة الرحيمة. فحصت عيني اليمنى خلال أقلَّ من دقيقة، ثمَّ أطلقت استشارتها المجانية الأخوية الإنسانية: تحتاج مبدئياً لمحاولة تصحيح للقرنية عبر تقنية الخياطة المجهريَّة؛ فرتبْ أوراقك وراجعني على جناح السرعة؛ دونما أي توانٍ.
    ولكنِّي ذُهلت عنها ستة أشهر بسبب اختلافي عدة مرات بالسفر إلى إستنبول حيث كان يخضع والدي للعلاج الكيمياويِّ الكاشح من عضالٍ خبيثٍ ألمَّ به قبل سنة مريرة؛ فجعله قعيد الفراش؛ ولكنه ظلَّ حامداً شاكراً ..... متربَّصاً.... متصبِّراً.
   وبُعيد أن سلَّم والدي – رحمه الله وأرضاه- الروح إلى بارئها في 18/12/2013 وأنا كنت ألازمه حينها في تسعة وعشرين يوماً حزيناً، حتى دفنته بيديَّ في مقبرة (كايا شهير) في الآستانة الجميلة؛ التي كان يحبُّ .... فهُرعت إلى عيادة الإنسانة الجليلة فلم تخفِ عني أن تأخري ستة أشهر عن مراجعتها قد خفَّض نسبة نجاح تلكم الخياطة إلى النصف؛ فقلت في نفسي: إن الذي ردَّ ليعقوب -عليه السَّلام- بصره بعد ما ابيضَّت عيناه فهو كظيم لسنوات هو الرحيم الذي سيمنُّ على العبد الفقير فيردَّ عليه شيئاً من إبصاره ليقتات عليه؛ سيِّما وأنني أمضي عشر ساعات يومياً في القراءة والكتابة الجادَّتين المنتجتين.
    وحُدِّد موعد الخياطة لعيني المهترئة بعيد أن تهدأ العين عبر قطرات علاجية لأسبوعين فقد كانت عيني اليمنى تخوض مخاضات مريرة من التأخر القسري الذي فُرض علينا جميعاً، ولكن الأمل بالله تعالى لم ينقضِ أبداً.
     كانت السيَّارة في الساعة الثامنة والنصف صباحاً – والجو قارص البرودة – تنتهب الطريق انتهاباً لئلا نصل متأخرين إلى مشفى العيون. ولم تتأخر الإجراءات الروتينية في عملية الإدخال التي أفضت بنا إلى غرفة العمليات؛ حيث فوجئتُ أن "الإنسانة الخيَّاطة" قد استبقتنا إلى الغرفة قُبيل وصولي وبعضِ الممرضين؛ فلله درَّ خياطتها ومواعدها المنضبطة، فهذه هي المرة الأولى لي -عبر عمليات سابقة خضتها- أرى فيها الطبيب الجراح في غرفة العمليات!
    قلت لروحي: أُشغل نفسي "بالبقرة" خلال الأربعين دقيقة من عمر الخياطة؛ فهو الوقت المكافئ لاستظهاري للزَّهراء الأولى عادة؛ لأن الخياطة ستتمُّ تحت وطأة "حشيش" موضعي. وأنا هنا أخلع على المخدِّر لقب حشيش لأنه صار حديث الأروقة والصالونات في الأردنِّ الحبيب بعد أن استُشهد وجُرح غير واحد من نشامى أمننا الحبيب؛ وهم يطاردون مهربي المخدرات (الكبتاجون تحديداً)؛ عبر موسم هجرته من الشِّمال إلى الجنوب، بعكس ما توقع "الطَّيبُ صالح" - رحمه الله - فلو عاش بين أظهرنا لسمَّى روايته "موسم الهجرة إلى الجنوب"!!
   ولكنَّني لم أسطع إكمال الزهراء لأن الخيَّاطة الماهرة الدؤوب كنحلة كانت تكلمني وتكلم المساعدين، وما ألقى الطمأنينة في روعي وطرد رُهاب العمليات الجراحية وأنا تحت مخدر موضعيٍّ أنْ بدأت الخيَّاطة جراحتها بقول باسم الله الرحمن الرحيم؛ فعلمت لحظتئذٍ أني بين يدي ملاك قد أخفى الله جناحيه؛ فلا هما مثنى ولا ثُلاث ولا رُباع، ثمَّ أنزله إلى أرضينا ليرحم أعين البشرية بخياطته الأسطوريَّة.
    وخلال أنيني المكبوت الذي كنت أخنق صوته انتصاراً لرجولتي تذكرت الصحفي البطل المصابر "وائل الدحدوح" وقد أُجريت له عملية جراحية بدون حشيش بعدما استهدفه وزميله سامر أبو دقة -رحمه الله - صاروخٌ صهيوأمريكي ضغون. وكان ابنه من ذي قبل قد أُجريت له خياطة لرأسه المجروح أيضاً بدون مخدر، ووائل هذا هو بطل الرواية التي أسرد حكايتها منذ شهرين عن غزوة طوفان الأَقصى الفرقانيَّة.
   ثم تذاكرت الأطفال الذي يكونون ملقَون على بلاط المشافي في دير البلح وخان يونس ومجمع الشفاء الطبِّيِّ وغيرها من المشافي التي قد خرَّجها جلاوزة الصهاينة عن الخدمة.... وهو ينتظرون الَّلاعلاج؛ إذ لا خيطان ولا مخدر ولا مقصات ولا مباضع ولا ...... وهم ينزفون دماً وحَزَناً... وأنا أرفل على سرير طبي ملوكي ألكترونيِّ؛ في أرقى مشافي عمَّان الحبيبة، وحولي لفيف من الملائكة (غير البيض)، ولا أدري لمَ عدلت الملائكة من المريول الأبيض الجميل الناصع إلى ألوان أخرى كالزهري والبنفسجي؛ فلله في ملائكه شؤون؛ فهم عالم قد جُنَّ عن أعيننا المِراضِ؟!
   مضت نصف ساعة والخيَّاطة الحاذقة تسأل هذا أن يناولها خيطاً، وذاك أن يعطيها مقصَّاً، وتلكم أن تأتيها بمبضع؛ وأنا أئنُّ تحت وطأة هذه الأدوات الجراحية التَّخيطيَّة؛ فقالت لهم: زيدوا له شيئاً من المخدرات، فسكنتُ قليلاً، ولم أعرف حتى اللحظة أين وصلتْ بي الزهراء الأولى؟!
   ولم أنسَ ساعتئذٍ خيَاطة أمي – وهي التي لا تزال تمارس المهنة رغم تخطيها عتبة الثمانين- فحفظها الله ورعاها، وأدام علينا خياطتها الجميلة، رغم أنَّها لم تعدْ ترى خرم الإبرة، وتستعين بمن هي أحَدُّ منها بصراً قائلة: شوفوا ما عدت أقدر على نظم الخيط في سَمِّ الخيِاط؛ فأضحك قائلاً وأنا أداعبها: أمَّا أنا فلا أرى الإبرة نفسها؛ فتقرُّ نفساً رضىً وصبراً.
    على أية حال؛ فقد أمضت والدتي – حفظها الله وخياطتها -في مهنة الخياطة الإنسانية هذه ما يقارب سبعين عاماً، في حين أن النَّطاسيَّة ربَمَا أكملت عامها العشرين التَّخيطيِّ؛ فهي في أواسط الأربعينيات من ربيعها المعطاء.
   ورغم أن نسبة نجاح عمليتي الخياطية كما أعلمتني هذه الإنسانة الجليلة لا تتعدى 30% ، وأن النتائج لا تظهر قبل أسبوع وربَما أكثر؛ فقد استرقت نفسي بعيد العملية من بين الجالسين والعائدين لي ورحت أخطُّ هذه الكُليمات؛ لأن اليوم الذي لا أقرأ وأكتب فيه  ما ينفع الإنسانيَّة (ما ينحسبشِ من عمري)؛ كما غرَّدت  يوماً ما الراحلة "أمُّ كلثوم".
   ويكفيني ذخراً قبل أن أنهي هذه الأقصوصة أن أقول لكم: إنِّي قد اكتنزت اليوم بخيَّاطة ماهرةٍ إنسانة غير أمي؛ وهي الطبيبة الإنسانة نانسي خلف الرَّقَّاد؛ العقيد في الخدمات الطبية الملكية الأُردنية واستشارية أمراض العيون ورئيسة وحدة القرنية والليزيك في المدينة الطبية، والمفتشة في كلية الجراحين الملكية في جلاسكو بالممكلة المتحدة ،،، وووووو .......