الرئيسة \  مشاركات  \  الخامس من حزيران 1967 الذكرى الخمسون

الخامس من حزيران 1967 الذكرى الخمسون

11.06.2017
د. محمد أحمد الزعبي




1. جهل الأجيال الصاعدة بتاريخ الخامس من حزيران 1967:       
إن ما دفع بي إلى كتابة هذا الموضوع ،على هذا النحو هو ، ماشاهدته وما سمعته على شاشة إحدى الفضائيات ، من أن العديد من أبناء وبنات الأمة العربية ، ولاسيما الجيل الجديد منهم ، باتوا لايعرفون ولا يذكرون شيئا عن ماهية( ماهو ) هذا التاريخ ،( الخامس من حزيران 1967 ) الذي يعتبر التاريخ الأبرز والأهم في حياة أمتنا العربية في العقود الستة الأخيرة .
لقد كنت حائرا ومترددا وأنا أحاول كتابة هذه الورقة . هل أقوم بسرد ماأعرف عن وقائع ومجريات أحداث الخامس من حزيران ، والتي أعرفها وعرفتها ( كشاهد عيان ) بحكم موقعي الحزبي والسياسي في تلك الفترة ، أم أكتفي بتحليل وتفسير الأسباب البعيد والقريبة الكامنة وراء هذه الهزيمة العسكرية والنكسة القومية ؟ أم أدمج الأمرين معاً . لقد رأيت أن وجودي في ديار الغربة لايعطيني الحق في أن أتعرض لبعض الوقائع التي لم يعد ممن سآتي على ذكرهم في هذه الوقائع على قيد الحياة ، ولذلك فقد رأيت أن أعتمد الأسلوب ( المنهج ) الثالث ، اي عملياً أن أكتب حول ، (هزيمة الخامس من حزيران ، أسبابها وتبعاتها ) ، سواء ماأعلمه عنها علم اليقين ، أو ماوصلت إليه عن طريق التحليل العلمي المنهجي ، بما أنا باحث علمي ، قبل أن أكون رجل سياسة .
2. بين الجهل والتجهيل :
 إن ماأرغب تثبيته هنا ، مباشرة ، هو أن السبب الرئيسي الكامن وراء عدم معرفة المواطنين العرب ، ولا سيما الأجيال الجديدة منهم ، لمضمون وأبعاد وماهية تاريخ الخامس من حزيران عام 1967 ، إنما هو تعمّد حكام أنظمة الحكم العربية ، (التي بات عمرها الحالي يزيد عن نصف قرن من الزمان ) إخفاء هذا التاريخ المشؤوم عن عيون وآذان وأذهان مواطنيها ، ذلك أن حكام هذه الأنظمة المزمنين هم من عمل ، ومن ثم كرّس هذه الهزيمة ــ النكسة ، وهم الذين قاموا ويقومون منذ 1967 وحتى الساعة باستثمار نتائجها المأ ساوية لصالحهم وصالح أبنائهم وأسرهم الحاكمة ، وذلك بالتكامل والتوافق والتفاهم مع الدول الإستعمارية ـ الإمبريالية الكبرى ، وبالتالي مع الكيان الصهيوني نفسه .
ومن أغرب الأمور في هذا المجال ، هو إحجام حكام النظام السوري ، الذين احتلت " إسرائيل " عام 1967( حرب حزيران ) جزءا استراتيجيا من وطنهم ( هضبة الجولان ، وجبل الشيخ ) ، والذين يعتبرون مسؤولين سياسياً وأخلاقياً وعسكرياً عن هزيمة 1967 ، وبالتالي عن ضياع هضبة الجولان . عن إيراد أي شيء يذكّر المواطنين بهذا الإحتلال وبهذه الأرض ، سواء في خطبهم الرسمية أو في تصريحاتهم الصحفية المتواترة وذلك منذ عام 1967 وحتى ثورة آذار 2011( اللهم إلاّ ماندر وعلى سبيل رفع العتب لاغير ) ، وهنا أيضا كأن المطلوب والمرغوب هو أن ينسى الناس أن لهم أرضا محتلة ، وأن عليهم مسؤولية تحريرها واستعادتها ، وأن مرور الزمن ( نصف قرن حتى الآن ) كفيل بنظرهم بتحقيق هذا المطلب والمرغب العجيب الغريب ، بل والقابل لأكثر من إشارة استفهام وتعجب ؟ !! .
3. النكسة الحقيقية :.
إن النكسة الحقيقية لم تكن ــ واقع الحال ــ هي هزيمة جيشي مصر وسورية أمام إسرائيل في حزيران عام 1967، ولا سيما أن إسرائيل كانت منذ قيامها عام 1948 وما تزال تحارب بالوكالة عن النظام الرأسمالي والإمبريالي العا لمي ، الذي كان يمدها دائما بكل مستلزمات الإنتصار على العرب ، وإنما النكسة الحقيقية كانت بضمور بل وموت إرادة الصمود والتصدي عند معظم الأنظمة العربية بصورة عامة ، وعند أنظمة الهزيمة الذين احتلت " إسرائيل " أراضيهم ودمرت جيوشهم خاصة ، والذين باتت تنطبق عليهم حكاية " تيس عاهرة " الشعبية المعروفة ، تلك الأنظمة التي انطلقت جحافلها في الخامس من حزيران لكي تحرر فلسطين ، كل فلسطين ، من الإحتلال الإستيطاني الإسرائيلي ، وعادت إلينا بالقرار 242 الذي حصر القضية الفلسطينية بما سمي " إزالة آثار العدوان " والذي بات يعني عمليا ، خذوا فلسطين وأعيدوا إلينا الأراضي التي احتليتموها في حرب الخامس من حزيران 1967 ، والذي تمت ترجمته العربية لاحقا إلى " الأرض مقابل السلام " وتم توصيفه من المهزومين ومعهم كافة أنظمة جامعة الدول العربية بـ " السلام العادل والشامل " (!!) ، علماً أن كلمة الشامل هنا إنما تعني واقعيا الأراضي التي احتلتها إسرائيل من مصر وسورية والأردن عام 1967 حصرا وفقط ، بينما تعني كلمة العادل الإعتراف بإسرائيل والتطبيع الكامل معها ، وذلك على حساب المصالح والحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني في الداخل والخارج ( حوالي ثمانية ملايين نسمة )، بما فيها تلك التي كفلتها لهم قرارات الأمم المتحدة ، ولا سيما القراران181 ( قرار التقسيم / 18.11.1947 ) ، و 194 ( قرار حق العودة والتعويض /11.12.1948 ) !!
ويحضرني في هذا المقام ماقاله لي المرحوم زكي الأرسوزي ، ابن الإسكندرون ، وأحد آباء حزب البعث العربي ، عندما زرته في المستشفى بعيد هزيمة حزيران 1967 : ( لقد نصحت الحاكمين العلويين(هذا كلامه) بان يستقيلوا من الحكم ) ، وهنا سألته ( وهو العلوي ): وهل تعتقد ياأستاذ أن الحاكمين الآن هم العلويون ، فأجابني بدون تردد" نعم" ، لقد جاؤواإلى الحكم لتحريرفلسطين ، ( كما أوهموه على مايبدو) ولكنهم فشلوا فعليهم أن يستقيلوا . رحم الله الفيلسوف العربي الكبير والشريف زكي الأرسوزي .
4. عبد الناصر وحرب الإستنزاف :
يعرف الكاتب هنا، أن الكثير من أصابع الإتهام في هذه الهزيمة العسكرية والنكسة القومية تشير إلى جمال عبد الناصر ، وإلى قبوله بقرار مجلس الأمن 242 ، الذي ينطوي في مضمونه على الإعتراف بالكيان الصهيوني في فلسطين ، بيد أنه ( الكاتب ) وهو لاينكر مسؤولية عبد الناصر، بهذه الدرجة أوتلك ، عن كل من المسألتين ( النكسة والقبول بالقرار 242 ) ، يعرف تماما ( كما يعرف الجميع أيضا ) أن عبد الناصر قد شرع منذ اليوم الأول بعد تراجعه عن الإستقالة تحت ضغط الشارع المصري والعربي ، في إعادة هيكلة وبناء القوات المسلحة المصرية ، اعتمادا على تصميم الشعب المصري على الثأر لحريته وكرامته من العدو الصهيوني ، وايضا على علاقته الممتازة مع الإتحاد السوفييتي الذي وضع تحت تصرفه كل مايساعده على إعادة الإعتبار لجيشه وشعبه ، بل وللأمة العربية كلها ، والذي سمح له أن يبدأ ماعرف بحرب الإستنزاف عام 1969 ، تلك الحرب التي بدأت تصيب من الإسرائيليين مقتلا ، ولا سيما في الجو والبحر ، والتي مهدت الطريق لأنور السادات ، بعد وفاة الرئيس عبد الناصر 1970 ، لتحقيق ذلك النصر الجزئي عام 1973. والذي تمثل في عبور أبطال القوات المسلحة المصرية إلى الجهة الشرقية من قناة السويس ، وتدمير الخطوط الدفاعية الإسرائيلية في تلك المنطقة ، والتي يشبهها البعض بخط ماجينو في الحرب العالمية الثانية .
 5. حرب التحريك 1973
لقد مثل وصول أنور السادات إلى قمة السلطة في مصر العربية ـ برأينا ـ بداية النكسة الحقيقية للأمة العربية ، ذلك أن هذا الوصول كان انقلابا فعليا ليس فقط على الناصرية وإنما على قيم ومبادئ ثورة 23 يوليو نفسها ، حيث بدأ وبالإتفاق مع هنري كسنجر عملية التمهيد لتخلي مصر عن القضية الفلسطينية ، بما في ذلك التخلي عن مسؤوليتها القومية والأدبية عن قطاع غزة ، وذلك بطرد الخبراء السوفييت من مصر ، كخطوة على طريق حربه المحدودة عام 1973 ، والتي كانت الجسر الضروري والتكتيكي الذي عبر منه وعليه أنور السادات إلى القدس ومنها إلى واشنطون لتوقيع اتفاقية " السلام العادل والشامل " !! ( اتفاقية كامبديفد ) مع الكيان الصهيوني ، والتي أعادت جزيرة سيناء إلى مصر شكلا فقط وأبقتها مضمونا تحت الإحتلال الإسرائيلي ، كما نشاهد اليوم .
إن إشراك أنور السادات الجزئي لحافظ الأسد في حرب عام 1973 ، إنما كان هدفه الأساسي التغطية على الإتفاق الثنائي بينه وبين كسنجر على هذه الحرب ، والذي تم إخفاؤه ــ على مايبدو ــ عن حافظ الأسد انطلاقا ( وهذا حسب تقديرنا الخاص ) من أن الشعب السوري بمختلف مكوناته الإجتماعية ، لم يكن جاهزا بعد للإعتراف بإسرائيل ، والتخلي بالتالي عن السيادة الفعلية والكاملة على هضبة الجولان وجبل الشيخ . إن الصيد الثمين في هذه اللعبة الكسنجرية كان هو جمهورية مصر العربية ، التي تمثل الثقل العربي النوعي والأساسي في الصراع العربي الإسرائيلي ، والذي قيل فيه : لاحرب بدون مصر، ولا سلام بدون سورية . هذا مع العلم أن كيسنجر قد ألحق حافظ الأسد بلعبته الساداتية عند زيارته لدمشق عام 1974 ، والتي ماتزال سراً أسدياً خاصاً بالعائلة ( الأب والإبن ) ومجهولاً من كل أحد حتى هذه اللحظة.
لقد وضعت اتفاقية كامبديفد بين مصر وإسرائيل عام 1979 المدماك الأول والرئيسي في جدار الإعتراف العربي الرسمي بإسرائيل ، والذي وضعت أسسه التحتية حربا 1967 و1973 ، ومن ثم توالت مداميكه تترى في مؤتمرات القمم العربية اللاحقة ، والتي كان آخرها وأكثرها قربا من كامبديفد السادات (المبادرة العربية للسلام (!!) )التي تم إقرارها بالإجماع في مؤتمر بيروت عام 2002 ، وتتابع تبنيها بالإجماع أيضاً (!!) في كافة مؤتمرات القمم العربية اللاحقة ، والتي كان آخرها مؤتمر عمّان 2017 . واقع الحال أن هذه المبادرة كانت إحدى الثمرات الأكثر مرارة في شجرة نكسة / هزيمة الخامس من حزيران 1967 ، والتي يشير البلاغ العسكري رقم 66 فيها ، بإصبع الإتهام إلى حافظ الأسد ، وزير الدفاع السوري آنذاك ، والذي سلم إبنه بشار راية متابعة طريق أبيه ، ومتابعة حجب الموقف الحقيقي لنظام عائلة الأسد من إسرائيل عن الجماهير العربية والسورية ، ولا سيما أن الشعب السوري بغالبيته بات بعد ثورة 18 آذار 2011 بنظر نظام عائلة الأسد عبارة عن " عصابات مسلحة / إرهابيين " يجب القضاء عليهم .
 لقد أصبح إسم ومفهوم الإرهاب ، بنظر بشار الأسد ومؤيديه في الداخل والخارج ، هو الإسم الحركي للعرب السنة الذين يمثلون المكون الرئيسي من مكونات الشعب السوري كما يعلم الجميع وكما يعلم بالذات عبد الفتاح السيسي ، الذي تحول إلى عبد الغلاّق ( وليس عبد الفتاح ) لمعبر رفح ، لكي يسهم بواجبه الإمبريالي في خنق قطاع غزة ، وإبادة ساكنيه ، فلا نامت أعين الجبناء .
 
6 . قرار قمة الرباط 1974.
إن أحد المداميك الهامة في سلسلة التخلي العربي الرسمي عن القضية الفلسطينية ، كان قرار قمة الرباط (26.10.1974 ) التي اعتبرت أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ، وهو مايعني إخلاء ذمة وطرف مصر حيال مسؤوليتها عن قطاع غزة الذي كان في عهدتها قبل أن تحتله إسرائيل في حرب حزيران 1967 ، وكذلك إخلاء طرف وذمة المملكة الأردنية الهاشمية من مسؤوليتها حيال الضفة الغربية من نهر الأردن والتي كانت بدورها في عهدة النظام الأردني قبل أن تحتلها إسرائيل في نفس العام المذكور، وإخلاء ذمة النظام السوري ( نظام عائلة الأسد ) عن مسؤوليته القومية تجاه فلسطين التاريخية ، ولا سيما أنه بات منشغلاً ، بتحرير الجولان السورية ، وترك الفلسطينيين لوحدهم في مواجهة إسرائيل حيث بات على كلٍّ أن " يقلع شوكه بيده " كما سمعته بأذني من مسؤول في حكومة حافظ الأسد بعيد الهزيمة مباشرة .
إن المسكوت عنه في هذا القرار( قرارقمة الرباط) يتمثل واقعيا بلعبة عربية ـ إسرائيلية ـ فلسطينية مزدوجة ، أعطت الفلسطينيين الحق في تقرير مصيرهم حول قضيتهم بانفسهم من جهة ، ولكنها قزّمت هذه القضية من تحرير لكامل فلسطين التي استولت عليها إسرائيل عام 1948، أوعلى الأقل المحددة في القرار الأممي 181 ، إلى تحرير للضفة الغربية وقطاع غزة اللذين استولت عليهما إسرائيل من مصر والأردن عام 1967 ، واستعادة هضبة الجولان السورية التي احتلتها إسرائيل أيضاً في حرب 1967 ، من جهة أخرى ، أي أن هذه القمة العربية أعطت الفلسطينيين مكسبا شكليا بيدها اليمنى ثم سلبته منهم فعليّاً بيدها اليسرى !! . وهنا أيضا ، فإن الأب الشرعي لهذه المؤامرة ، هو هزيمة الخامس من حزيران عام1967 .
7. ( عودة إلى الوراء قليلاً ) :
عندما أعود بذاكرتي إلى الوراء ، وبالذات إلى الفترة التاريخية التي ابتدأت بالانقلاب الإنفصالي على الجمهورية العربية المتحدة والرئيس جمال عبد الناصر عام 1961 ، وهو الإنقلاب الذي ترتب عليه " ثورة " الثامن من آذار 1963 ، التي ترتبت عليها أحداث 18 تموز 1963 وتصفية مئات الضباط الناصريين ، الذين كانوا في غالبيتهم من المسلمين السنّة ، الأمر الذي أدّى إلى استفراد الضباط البعثيين ممثلين بـما عرف بـ " اللجنة العسكرية " بالحكم ، واستجرار حزب البعث إلى الحكم كواجهة سياسية مدنية ضرورية لهذه اللجنة ...عندما أعود بذاكرتي إلى تلك الفترة الزمنية ، أجدني أمام إشكالية وطنية وحزبية معقدة ، تجسدت ، بصراع أيديولوجي مزدوج ، من جهة داخل الحزب نفسه ، ومن جهة أخرى بين الحزب والرأي الآخر المعارض ، والذي كان يتمثل حينها بـ : التيار الناصري ، والتيار الإسلامي ، والبرجوازية الوطنية السورية . وقد كان كل من هذين الطرفين ( البعث ومعارضيه ) يتغذى على الأخطاء النظرية والعملية التي كان يرتكبها الطرف الآخر .
لقد ترتبت على انفراد حزب البعث بالسلطة في تلك المرحلة ، والتي كنا أحد شهودها ، جملة من النتائج الاجتماعية والسياسية السلبية أبرزها :
ـــ بروز وتضخم الظواهر الاجتماعية المرضية ، سواء داخل حزب البعث نفسه ، أو داخل
 المجتمع ككل ( القبلية ، العشائرية ، الطائفية ، الجهوية ، القطرية ) ، وذلك على حساب
 الطابع القومي الذي كان يطبع كلاًّ من االأحزاب السياسية والمجتمع في تلك الفترة .
ـــ اللجوء إلى الانقلابات العسكرية ( البلاغ رقم 1 ) التي سبق أن افتتحها حسني الزعيم عام 1949
 وإلى التصفيات الجسدية ، سواء داخل الحزب نفسه ، أو على مستوى الدولة والمجتمع ، في إطار
 هذه الإنقلابات .
ـــ تراخي ، إن لم أقل تخلي الحزب عن شعار الحرية ( والذي هو أحد شعارات الحزب الثلاثة
 المعروفة ( الوحدة والحرية والإشتراكية )، وبالتالي عن الممارسة الديموقراطية ، الأمرالذي
 أوصل سورية عام2000 إلى مستنقع " التوريث " ، وحولها من نظام جمهوري ، إلى نظام ملكي
 يحمل زوراً اسم " الجمهورية العربية السورية " ( نظام جملكي!!) .
ـــ التخلي الفعلي عن القضية الفلسطينية ، وتبني حافظ الأسد رسميّاً لشعار " السلام مع إسرائيل "
 ( التي كانت وما زالت تحتل فلسطين وهضبة الجولان ) " كخيار استراتيجي " ، أي عملياً ،
 طي صفحة مقولة " ما أخذ بالقوة لايسترد إلاّ بالقوة " ، لصالح مقولة " الجيش العقائدي "
 الذي باتت وظيفته الأساسية الدفاع عن النظام وليس عن الوطن .
 
لقد مرت سوريا في ظل ماسمي ( ثورة الثامن من آذار 1963 ) أي في ظل حكم الحزب الواحد ولاحقاً الرجل الواحد ـ وهذا أيضاً حسب تقديرنا الخاص القابل للنقاش ـ بالمراحل التالية :
 
1) لقد جاءت ( ثورة ) الثامن من آذار 1963 في سورية ، بعد شهرواحد فقط من قيام (ثورة ) الثامن من شباط / فبراير 1963 في العراق ، الأمر الذي أعطى شحنة ثورية كبيرة لأعضاء حزب البعث ، الذي ( الحزب )كان يقف عملياً وراء هاتين الثورتين ، جعلتهم من جهة يشعرون بصوابية وصحة أفكار وشعارات الحزب بصورة عامة ، وشعار " الوحدة " بصورة خاصة ، ومن جهة أخرى ، حولتهم عملياً (هذه الثورة) إلى " انفصاليين من طراز جديد !! " ، وذلك بإغماض أعينهم عن السبب الحقيقي الذي كان يقف وراء نجاح هاتين " الثورتين " في العراق وسورية ، ألا وهو القضاء على (مؤامرة الانفصال ) التي قادها النحلاوي عام 1961 .
 
2) ولقد ترتب على هذا التراجع عن الوحدة بين سورية ومصر، والوقوع في فخ الانفصال ، عدة نتائج متباينة القيمة والأهمية طبعت تاريخ حزب البعث اللاحق ، وأوصلت بالتالي سورية إلى هذا الوضع المأساوي الذي هي عليه اليوم ( 2017 ) أبرزهذه النتائج :
 أ. انقسام حزب البعث إلى أربعة أجنحة متناقضة ومتصارعة هي :
ــــ الجناح الناصري الذي ظل متمسكاً بضرورة العودة إلى الوحدة ( ج ع م ) ،وكان من أبرز
 قادته ، الدكتور جمال أتاسي ، و عبد الكريم زهور ، وفايز اسماعيل ، والذي ( الجناح
 الناصري ) تشرذم بدوره لاحقاً ، ولا سيما ، بعد انفراد حافظ الأسد بالسلطة عام 1970 ،
 حيث شارك قسم منه في جبهة حافظ ( التقدمية!!) ، وبقي القسم الآخر في المعارضة .
ــــ الجناح العفلقي ، الذي ظل ينادي من جهة بالعودة إلى الوحدة ، ومن جهة أخرى كان
 حريصاً على بقاء سورية تحت حكم الحزب الواحد ( حزب البعث ) ، الذي كان الأستاذ ميشيل
 عفلق أمينه العام ، وقائده المؤسس ، وهوما يعني ــ تطبيقياً ــ الحرص على بقاء واستمرار
 الانفصال . علماً أن الطابع الغالب على هذا الجناح كان الطابع المدني المطعًم ببعض العسكريين
ــــ الجناح العسكري ( المطعّم ببعض المدنيين ) ، الذي تجسّد بما سمي بـ " اللجنة العسكرية "
 والتي كانت تنطوي على انقسامات طائفية وجهوية عميقة ، ظاهرها الإلتزام بقيادة الحزب
 القومية ( ميشيل عفلق / منيف الرزاز ) ، وباطنها تهيئة الظروف السياسية والحزبية المناسبة
 للانقضاض على هذه القيادة والتخلص منها ، وهو مانفذ فعليّاً ولكن على مرحلتين : الأولى
 في 23 شباط 1966، والثانية في16 نوفمبر 1970 ( حركة حافظ الأسد التضليلية ) .
 ــــ جناح أكرم الحوراني ، الذي توافق كل من الجناحين المدني والعسكري في الحزب ( ميشيل
 عفلق وصلاح جديد وحافظ الأسد ) على تصفيته باعتباره كان مؤيدا بصورة مكشوفة ومعلنة
 للإنفصال ، أي ـ واقعياً ـ لم يكن عنده فيما يتعلق بهذا المضوع كما الآخرين ظاهر وباطن .
 ب. أحداث 18 تموز عام 1963 ،
والتي كان نتيجتها ، تصفية مئات الضباط الناصريين من الجيش ، تحت ذريعة تآمرهم على النظام البعثي ( لاحظ الشبه بين الأمس واليوم !!) ، في حين أن السبب الحقيقي لتصفيتهم لم يكن برأينا ، يتمثل فيما هو معلن ، وإنما فيما هو غير معلن ( كون معظمهم ينتمي إلى الأكثرية السنيّة ) ، وهو ما أخلّ بالتركيب الهيكلي للجيش السوري ، وسمح بالتالي بالتحويل التدريجي لوظيفة ومهام هذا الجيش من حماية الوطن ، إلى حماية حكم الحزب الواحد ( مابين 1963 و1970 ) ، والذي تحول بعد 1970 إلى حماية حكم العائلة الواحدة، والشخص الواحد. لقد كانت مقولة "الجيش العقائدي" تمثل في هذه العملية المدروسة والممنهجة ، ورقة التوت التي حاول بها متنفذو اللجنة العسكرية ، وعلى رأسهم حافظ الأسد سترعورتهم الطائفية والعسكرتارية ، التي كانت عمليّاً وراء سيطرتهم على مثلث الجيش والحكم والحزب ولاسيما بعد 1970 ،
 ج. لقد أخذ الصراع بين الجناحين العسكري والمدني ،
يتخفّى ويتموّه تكتيكياً تحت أسماء لاعلاقة لها بجوهرهذا الصراع ، أبرزها : (قومي ــ قطري ) ، ( يمين ــ يسار) ، والذي تحول بعد حركة 23 شباط 1966 إلى صراع ( قطري ــ قطري ) بين البعث العراقي (صدام حسين وميشيل عفلق ) والبعث السوري ( صلاح جديد وحافظ الأسد ) ، ثم ترسخت هذه القطرية ، وأخذت شكلها النهائي ، بعد انقلاب حافظ الأسد على صلاح جديد عام 1970 فيما سمي ب(الحركة التصحيحية/ التضليلية )
وتقتضي الأمانة العلمية مني ، أن أشير هنا إلى أن صلاح جديد كان أقرب إلى مبادئ وأفكار الحزب من حافظ الأسد ، ولذلك استطاع أن يجمع حوله عدداً كبيراً من الحزبيين المؤمنين بشعارات الحزب الثلاثة ( الوحدة والحرية والاشتراكية ) ، ولكن ، المقتنعين بأ ن التيار العفلقي ،( الذي بات يمثل بنظرهم يمين الحزب ) هو من يعطل تحقيق هذه الشعارات ، وخاصة منها شعار الاشتراكية ، الذي يعطي للحزب طابعه التقدمي اليساري الطليعي ، ويخلصه من طابعه البرجوازي النخبوي الذي رافق نشأته عام 1947 . ويجسد النص التالي الوارد من مقررات المؤتمرالقومي السادس عام 1963( بعض المنطلقات النظرية ) هذا التصور حول الفارق بين مفهوم " النخبة " الوارد في دستور 1947 العفلقي ومفهوم " الطليعة " ( الإشتراكي )الوارد في " بعض المنطلقات النظرية / مقررات المؤتمر القومي السادس " المضادة لعفلق :
( إن حيزاً ضيقاً يفصل بين مفهوم النخبة الفاشستي ، وبين مفهوم الطليعة الاشتراكي ، ففي حين أن مفهوم " النخبة " ينظر إلى الجماهير ، مجرد قطيع منفعل سلبي ، تسوقه " النخبة " إلى " السعادة والعدالة " ...فتنزلق النخبة بالضرورة إلى الانعزال عن الجماهير ، وممارسة ديكتاتورية مباشرة عليها ،عن طريق الإرهاب تارة ، أو تشويه الرأي العام وتكييفه وفق رغباتها تارة أخرى . أما مفهوم الطليعة الاشتراكي ، فيرى في الجماهير جوهر الثورة والديموقراطية ... )
وأرغب أن أشير هنا ــ كشاهد عيان ــ ( دون أن أسقط مسؤوليتي النسبية في هذا الموضوع ) إلى
ملاحظتين تتعلقان ب " الفارق بين مفهوم النخبة ومفهوم الطليعة " :
 الأولى ، هي إن مقررات المؤتمر القومي السادس1963 التي اقتبسنا منها الشاهد أعلاه ، قد كتبت
من قبل شخصين ماركسيين ليسا عضوين في حزب البعث ، وذلك بتكليف من بعض أعضاء القيادة القطرية المؤقتة آنذاك والتي كانت مكلفة بإعادة تفعيل الحزب في القطر السوري ( بعد المؤتمر القومي الخامس في حمص 1962) بعد أن كان محلولاً في ج ع م ، والتي كان أمينها القطري حمود الشوفي ، وكان حافظ الأسد عضواً فيها ،
 والثانية ، هي أن ممارسة حزب البعث في السلطة ، منذ الثامن من آذار 1963 وحتى حركة حافظ الأسد التضليلية 1970 ، مروراً بحركة 23 شباط 1966 ، هي ممارسة غيرديموقراطية ، وبالتالي فهي لاتشيرإلى أي فارق حقيقي ملموس بين مفهوم النخبة ومفهوم الطليعة ، من حيث أن كليهما كان يحمل في طياته ـ وهذا من وجهة نظرنا ـ ، بذور التعالي على الشعب والابتعاد عن الحرية والديموقراطية .
3. مداخلة محمد الزعبي وقرار القيادة المختلطة حولها :
لقد قدم محمد الزعبي عضو القيادة القومية بتاريخ 26/3/67 نقداً شاملاً لمسيرة حركة 23 شباط 66 ، وقد اتخذت القيادة ( المختلطة ) قراراً حزبياً مضاداً لمداخلة الزعبي ، هذا نصه :
 


 4.
 و أرغب أن أشيرفي ختام هذه الورقة وهنا ــ كشاهد عيان ــ إلى أن مرحلة ماقبل 1970 (1963ــ 1970 ) كانت تتميز عملياً باحتدام الصراع السياسي والأيديولوجي بين الآراء والأجنحة والمجموعات المختلفة في الحزب ، ولا سيما بين من يغلب عليهم الطابع المدني ، ومن يغلب عليهم الطابع العسكري ، ذلك الصراع الذي انتهى باستيلاء العسكر على الحزب عام 1966ومن ثم على الحكم عام 1970 ، وهكذا تمت سيطرة حافظ الأسد على كل من الجيش والحزب والحكم في آن واحد ، ووضع رفاقه وشركاءه في حركة 23 شباط 1966 ، وبمن فيهم صلاح جديد ونور الدين الأتاسي ويوسف زعين في سجن المزة العسكري مدة زادت على العقدين من الزمن دون سؤال أو جواب (!!) . وهي سيطرة مستمرة منذئذٍ وحتى هذه اللحظة ، ولعل شعار ثورة آذار 2011 " الشعب يريد إسقاط النظام " إنما يشير إلى رغبة الشعب السوري في الانعتاق من هذه السيطرة ، التي طال أمدها . والتي دمرت سوريا بشراً وحجراً وشجراً تدميراً كاملاً بيده ( الوريث بشار الأسد ) ، وبيد عمرو أيضاً ( بوتين وحسن نصر الله وولي الفقيه ) في آن واحد .