الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الثورة السورية .. أسماء ودلالات

الثورة السورية .. أسماء ودلالات

29.03.2020
خديجة جعفر



العربي الجديد
السبت 28/3/2020
للثورة السورية في مسارها المتعرّج والمتناقص في نهاية عامها التاسع أسماءٌ عدّة. لكلّ اسمٍ دلالةٌ تكشفُ عن وجهِ حقيقةٍ من حقائقها المدهشة والمفجعة في آنٍ. حين اندلعت في أوّل أسبوعٍ من عمرها، تنبأ الكاتب السوري مجاهد ديرانية بأنّها ستزلزل الأرض من تحتها، فسماها الزلزال السوري، وما لبث يدوّن، في مدونته المسمّاة بهذا الاسم، يومياتِ الثورة تسعة أعوام متصلة، منذ بدايتها السلمية في التظاهرات الأسبوعية وحتّى نهايتها المنحسرة في هذه اللحظة، وما تخلّلها من أحداثٍ عظام. وقد شهدنا هذا الزلزال في وقائعه المتتالية، فشهدنا الدعم الإيراني واللبناني والعراقي لنظام الأسد، وشهدنا سيطرة الثوار على مناطق شاسعة من سورية، ثم انحسارهم لصالح تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي استدعى حربًا دولية على الإرهاب، قادتها الولايات المتحدة، ثمّ شهدنا انحسار مناطق الثوار بفعل الدعم الإيراني برًّا، والقصف الروسي المتوحش جوًا، وشهدنا استفادة القوميين الأكراد من الزلزال السوري باستحواذهم على مناطق الشرق مكافأة لهم على استئصالهم تنظيم داعش. ثم كانت آخرُ زلزلةٍ بالتدخل التركي في الشمال السوري لردع الأكراد القوميين عن تكوين كيان شبيه بالدولة على الحدود الشمالية. انشقّت الأرض إذن في الزلزال الذي لم يترك حجرًا في مكانه.
أما الكاتب ياسين الحاج صالح فاعتبر أن الثورة السورية تقارع المستحيل، فسماها "الثورة المستحيلة"، وهذا المستحيل هو الواقع السوري الذي ثارت عليه. ويُحيل صالح سبب هذه 
"زلزلت الثورة اليتيمة أرض مشرقنا العربي عقوداً مقبلة، بعد إصرار متروكيها على مقارعة المستحيل"الاستحالة إلى أمرين: المجتمع الذي وصّفه بأنّه "مفخّخ" بفعل عملٍ منظمٍ من النظام الأسدي نصف قرن، فالمجتمع مفخّخ بعدد كبير من الأجهزة الأمنية والمخبرين، كما تقسّمه "أزمة ثقة وطنية عميقة" لم تنجُ منها المعارضة، ولم تنج منها الفصائل الثورية، وهو ما سماه صالح "الانقسام المعنّد للمعارضة السورية". السبب الثاني للاستحالة "العنف بلا ضفاف"، فقد عاين الكاتب المعروف عنف النظام الوحشي الذي بلا ريبٍ يفجّر عنفًا مجتمعيًا مضادًا. سماها صالح الثورة المستحيلة في عامها الأول، ويرى التراجيديا الكامنة في "مقارعة المستحيل"، فيكتب أنّ "الثورة المستحيلة وقعت مع ذلك، غير أنّ مغالبة المستحيل مأساوية، مثل منازعة القدر في التراجيديا اليونانية". واستطرد في ألم: "ما الذي نشهد عليه غير مأساة متمادية يقف العالم أمامها مشلولاً تتنازعه دواعي الإقدام والإحجام". واستمرّ العالم بالفعل في هذا الإقدام والإحجام بعد نبوءة صالح تسعَ سنين، وصولا إلى "سورية ما بعد الزلزال" كما قال مجاهد ديرانية.
ثمّ يأتي من داخل الثورة صوت محمد طلال بازرباشي، أحد مؤسسي حركة أحرار الشام الإسلامية التي أسهمت بفاعلية في الثورة السورية، ليسمّيها "الثورة اليتيمة". لم يوضح سبب تسميته هذه لها، على غير ما فعل ياسين الحاج صالح حين شرح لماذا هي مستحيلة، وذلك لأنّ الواضحات لا تُوضّح، فمعلومٌ ما يعني اليتم. وجه بازرباشي كلمته إلى المجتمع الدولي في حوار له مع قناة الحوار في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2012 : "كفاكم تخاذلاً.. كل الذي يجري في سورية صار واضحًا". ومعلوم أنّه لم تستجب أي دولة ولم تتدخل الدول الإقليمية سوى لمصالحها. يقول بازرباشي من الداخل عن انعطاف محوري في سيرة "اليتيمة"، انعطاف السلاح: "كان من الواضح أنه لابد من البندقية، فهدير هتافاتنا العزلاء لم يكن كافيًا لمحو عارٍ تلطخنا به خمسين عامًا. رشقات رصاصٍ ليليةٍ متقطعةٍ هنا وهناك تشي بقلة ذخيرتنا، وتشهد أننا أحرقنا مراكبنا واخترنا اللارجعة". ثم يقول: "هي بضعة مشاهد نقشتها هنا، لأنها كانت البداية، بداية الحياة الحقيقية، هي خطوتنا الأولى سعيًا إلى الوصول إلى حريتنا السليبة".
وهنا يأتي الناشط البارز في الثورة السورية، أحمد أبازيد، ليسميها، من دون كناية اليتم التي يستعيرها بازرباشي، "ثورة المتروكين". ويقول إنه ما من شعارٍ عبّر عن متروكية الثورة السورية أكثر من هتاف "ما لنا غيرك يا الله"، ثمّ أخذ في تفصيل أوجه هذه المتروكية، فمن وجهٍ، الثورة السورية متروكة اجتماعيًا، يقول أبا زيد: "هي ثورة المجتمعات المحلية الفاقدة لنخب المدينة"، فيصفها بأنّها "ثورة من لا صوت لهم أو لا خبرة لهم لتكون بذلك أقرب إلى ثورة من لا وزن لهم". ومن وجهٍ ثانٍ، الثورة متروكة تقنيًا، فقد فقدت الثورة الخبرات الطبية والقتالية والإدارية اللازمة للنجاح والانتصار. ومن وجهٍ ثالث، الثورة متروكة دينيًا، فالخطاب الإسلامي معزول عن الحركية أو الجهادية أو فاقد التأثير، بحسب أبا زيد. ومن وجهٍ رابع، 
"كشفت الثورة السورية عن صراع عربي – إيراني وصراع كردي – تركي. كما أذكت الصراع بين المذهبين الشيعي والسني السلفي"الثورة متروكة عسكريًا، إذ كان معظم المقاتلين من غير المحترفين، والمنشقون العسكريون ظلّوا قلة. ومن وجهٍ خامس، الثورة متروكة ثقافيًا، وهي متروكية تابعة للمتروكية الاجتماعية، فالنخب الثقافية الضيقة كانت من غير الفئات والطبقات الاجتماعية المحلية التي انخرطت في الثورة، فاتخذت تلك النخبة موقفًا مضادًا ونقديًا للثورة بالضرورة. ومن وجهٍ سادس، الثورة متروكة سياسيًا. ويشرح أحمد أبا زيد كيف أنّ النخبة السياسية السورية في الخارج كانت غير ممثلة للثورة السورية في الداخل، وكيف كرّست لقطيعة أيديولوجية مع الواقع الميداني السوري. ومن وجهٍ سابع، الثورة متروكة إقليميًا ودوليًا، وهذا واضحٌ للعيان، فلم يجد المجتمع الدولي سببًا كافيًا للتدخل لأجل نجدة المدنيين تحت القصف والقتل اليوميين. ولم تتدخل الدول الكبرى إلا لدحر تنظيم الدولة الإسلامية، بل استمر المجتمع الدولي بالتعامل مع النظام السوري ممثلاً لسورية. وقد يظن ظانّ أنّ أوجه المتروكية هنا قد انتهت، لكن أبا زيد يصدمنا أنّه حتّى "الباقين" من نشطاء وإعلاميّين ومقاتلين قد تركوا الثورة بين نزوحٍ من القصف، أو هروب من تنكيل النظام، أو من تهديد "داعش"، أو من عسر الحياة داخل الحصار وتحت القصف، فظلّت الثورة هكذا متروكة لا ناصر لها.
ولم تبتعد كاتبة هذه السطور كثيرًا عن دلالات الأسماء السابقة، حين سمت الثورة السورية الثورة الكاشفة، حيث كشفت هذه الثورة عن مستويات من الصراع في المنطقة، بخلاف الصراع العربي الإسرائيلي الذي ظلّ الصراع المركزي أكثر من نصف قرن. كشفت عن صراع عربي – إيراني وصراع كردي – تركي. كما أذكت الصراع بين المذهبين الشيعي والسني السلفي، ووُظّف هذا الصراع ببراعة في الصراع السياسي. وآخر ما كشف عنه الثورة السورية هو الصراع الدولي الأميركي – الروسي.
وهكذا، فبكشف الثورة السورية عن مستويات ومحاور أخرى من الصراعين، الدولي والإقليمي، لم تكن في بؤرة الاهتمام من قبل، فإنّ الثورة اليتيمة قد زلزلت أرض مشرقنا العربي عقودا مقبلة، بعد إصرار متروكيها على مقارعة المستحيل.