الرئيسة \  واحة اللقاء  \  التسوية والدستور

التسوية والدستور

17.02.2019
عبد الرحمن مطر


جيرون
السبت 16/2/2019
عادت قضية الدستور إلى الواجهة مجددًا، وبقوة هذه المرة، مع إعلان الأطراف المعنية اقتراب موعد الانتهاء من تسمية الثلث المتبقي من أعضاء اللجنة الدستورية، والتوجه إلى تجاوز الخلافات التي تعوق إطلاقها، في ظل تعطل مسارات التفاوض بين المعارضة السورية والنظام الأسدي، وانسداد أفق العمل السياسي، سواء بشأن وقف كامل لإطلاق النار في الأراضي السورية، أو في دفع الاتفاقات التي نجمت عن مسار سوتشي إلى حيز التطبيق بشكل حاسم، تتغير بموجبه معطيات الصراعات على الأرض، وفي مقدمها استمرار ملف إدلب، والمنطقة العازلة منزوعة السلاح، وأخيرًا إعادة إطلاق التسوية السياسية، كما تشاء موسكو، خارج إطار الأمم المتحدة.
أثار ذلك نقاشًا غنيًّا ومهمًا، وبالطبع أسئلة جوهرية، ما فتئ مجتمع الثورة السورية يطرحها، منذ أن بدأت تتكشف عن مفاوضات جنيف، التدخلات الروسية المباشرة الرامية لتحجيم دور الأمم المتحدة في القضية السورية، لمصلحة موسكو التي أخذت بتجميع معظم الخيوط والملفات بيديها، بمباركة البيت الأبيض. كانت سلال دي ميستورا الأربع هي المعبر الأساس نحو إيقاف مفاوضات جنيف، ومن ثم الذهاب إلى سوتشي، بتغليب المنهج الروسي لإدارة “الأزمة” وتصورات تسويتها، قبل أن يعيدها الكريملن إلى الأمم المتحدة (مستقبلًا) للمصادقة على ما تم إنجازه (الاتفاق أو التوافق عليه) وشرعنته.
تُوّجت جهود المبعوث الدولي السابق دي ميستورا، في جنيف، بانتزاع قبول هيئة التفاوض، بسلال دي ميستورا، واعتبار ذلك إنجازًا تتأسس عليه أرضية الحل السياسي. لكن المبعوث الدولي كان أمينًا في تبني الأفكار الروسية، في إعطاء تشكيل لجنة دستورية أولويةً على السلال/ الملفات الأخرى، ولم يكن ذلك انحيازًا واضحًا إلى طرف دون آخر، لا ينبغي للمبعوث الدولي أن يقع فيه، فحسب، بل كان تجاوزًا متعمدًا لخطوات الحل السياسي التي انطوى عليها القرار 2254.
وبدءًا من كانون الأول/ ديسمبر 2015، أحدثَ التصويت على القرار 2254، منعطفًا مهمًا في المسألة السورية. باعتباره مؤسسًا لأرضية ملائمة لإطلاق حل سياسي متكامل الجوانب. ووقفت المجموعة الدولية عاجزة عن فرض تطبيقه، لأنه وُلد دونما آليات مُلزمة، ولم يكن صادرًا بموجب الفصل السابع، على الرغم من أن الحرب الطاحنة التي يشنّها نظام الأسد وحلفاؤه، ضد المدنيين، تستوجب أن يكون القرار مُلزمًا لجميع الأطراف، بوقف العمليات العسكرية (وفقًا لبيان فيينا) والذهاب إلى عملية سياسية وفقًا لمبادئ جنيف واحد. وبدلًا من أن يساعد هذا القرار في تهدئة الأوضاع، فإنه تعرّض للتهميش التام، وأضحت الجهود الروسية منصبة على إيجاد منصة عمل تحمل أفكارها. وهكذا وجدت فكرة هيئة الحكم الانتقالي طريقها إلى الزوال، بعد أن نجح دي ميستورا في إبعاد بنود القرار، واستبداله بالسلال الأربع، ثم لاحقًا لتأخذ قضية الإرهاب مكانة مهمة، في النقاش العام بهدف الابتعاد من القضايا الأساسية للتفاوض: انتقال الحكم، وقضية المعتقلين والمفقودين، ومحاسبة مجرمي الحرب.
كفِلَ القرار بوضوح لا لبس فيه “عملية الانتقال السياسي” ودعم مجلس الأمن لمسار سياسي تشرف عليه الأمم المتحدة، ويشتمل على “تشكيل هيئة حكم ذات مصداقية”، وتشمل الجميع وغير طائفية، واعتماد مسار صياغة دستور جديد لسورية.
تمّ نسف كل شيء يتعلق بذلك، وأحيلت كل الأوراق إلى سوتشي، وأضحى دور الأمم المتحدة ثانويًا، ولا قيمة له على الإطلاق، وتراجعت الجهود السياسية، لمصلحة الملف الأمني والعسكري. وتعزّز استبعاد احتمالات الذهاب إلى إنشاء هيئة حكم انتقالي، مع بدء التدخل الروسي المباشر في سورية، كقوة احتلال منذ أيلول/ سبتمبر 2015. ومع تنامي عودة المناطق المحررة إلى كنف النظام الأسدي، بموجب العمليات العسكرية الروسية ودعم إيران والميليشيات الأخرى؛ توقف الحديث عن تشكيل “حكومة وحدة وطنية” تشارك فيها المعارضة السورية بقيادة الأسد، كبديل عن هيئة الحكم الانتقالي.
تضمنت ردات الفعل اعتراضات محددة، يمكن الإشارة إليها بثلاث نقاط أساسية: أولاها أن طرح قضية الدستور أولًا، على ما سواها من قضايا مهمة أخرى، إنما يستهدف طي مسألة إنشاء هيئة الحكم الانتقالي، وفقًا للقرار الدولي 2254، وهذا يعني بقاء النظام الأسدي، بمنظومته الأمنية وبصلاحياته الواسعة، والاستئثار بالقرار الوطني والتحكم فيه بعيدًا من المؤسسات الدستورية، يمنح الوضع القائم قدرة الاستمرار، بدعم القوى الدولية.
والثاني أن التضحيات الجسام التي قدّمها السوريون، لم تكن من أجل إعادة كتابة الدستور، خاصة بعد جرائم الإبادة المنظمة التي ارتكبها النظام ضد السوريين. قضية التغيير، وإنهاء الاستبداد، وبناء دولة القانون، هي الهدف الأساس للثورة السورية، وهي الغاية التي يجب أن تندرج في خدمتها كل المسارات التي تأخذ بها المعارضة السورية، المتمثلة اليوم بهيئة التفاوض بشكل رئيس، بحكم وظيفتها ومسببات وجودها.
أما النقطة الثالثة، فتتصل بشرعية تشكيل لجنة دستورية، من قبل الأمم المتحدة، أو/ وأطراف دولية وإقليمية، هي جزء منتج لإشكالات الوضع الأمني والعسكري والسياسي المعقد في سورية. خاصة أن القرار الأممي 2254 يشدد على دور أساس للسوريين في العملية السياسية قبل غيرهم. وتنسحب تساؤلات السوريين حول “الشرعية” في ما يتعلق بتسمية أعضاء اللجنة، الذين يجب أن تتوفر لاختيارهم معاييرُ تتصل بصدقية التمثيل (الانتخاب) وليس المحاصصة ذات الأبعاد السياسية والطائفية والدينية وغيرها، كما تتصل بالثقة بهم، وبخبراتهم، ومقدرتهم المعرفية، خاصة في مجال القانون الدستوري، كمثال.
هذه مسائل تتصل بالجوهر، وليست مجرد نقاش عام يدور بين الناس. وتلك تحمل أفكارًا بشأن المستقبل، وتنطوي على مخاوف المجتمع السوري، وتتلمس همومه بوضوح، لتبرز في السياق العام أسئلة عميقة أخرى، حول دور اللجنة الدستورية المرتقب، الذي لن يخرج عن إطار شكلاني، لا قيمة له، في النقاش العام وصوغ مواد الدستور بشكل حقيقي. كما يطرح السؤال الدائم نفسه، في كل مرة، عن مدى استقلالية القرار في المعارضة السورية، ودورها الممكن في رفض أو قبول ما تُساق إليه اليوم، بما في ذلك المشاركة في تجاوز بنود القرار 2254. القوى السياسية والاجتماعية السورية معطلّة اليوم، لا قدرة لديها على مواجهة التطورات التي تنجم عن توافقات القوى الإقليمية والدولية.
اعتراضاتنا لم تخرج بعدُ من إطار البيانات ووسائل التواصل الاجتماعي، وصوتنا -في هذه الحالة- لن يسمعه أحد، في ظلّ استمرار غياب آليات العمل المؤثر على الساحة الدولية، كيف يعرف اللاعبون الأساسيون -في الحدّ الأدنى- أننا ما زلنا هنا، ولو عبر الشتات، وأن انتفاضة السوريين اندلعت من أجل الحرية والتغيير، وليس لكتابة دستور جديد فحسب، يمكن تغييره في أي وقت بقوة السلاح!