الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الاشتباك الأخلاقي مع العملية التركية

الاشتباك الأخلاقي مع العملية التركية

16.10.2019
عيسى الشعيبي


العربي الجديد
الثلاثاء 15/10/2019
أوقفتُ، منذ مدة طويلة، انهماكي الشديد بالمجريات السورية، وأشحتُ وجهي عن تلك الصور المأسوية التي لم يعد في وسعي مشاهدتها، ولا يستطيع قلبي المتعب تحمّلها، فكنت كمن وضع ضمّادةً غير معقمةٍ على الجرح الغائر عميقاً في الوجدان الشخصي، آملاً أن تبرأ النفس مع مرور الوقت، وأن تتوارى مفاعيل هذا القَرْح كلما جدّ جرح جديد، أو تخلّق مشهدٌ إضافي راعف، يحل محل سابقه، هنا أو هناك، على امتداد جغرافيا المشرق العربي، لا سيما على الرقعة الفلسطينية، المفعمة بفيضٍ من الجراح المقيمة ما أقام عسيب، على حد قول الملك الضليل امرئ القيس.
غير أن النوائب السورية لا تكفّ عن اقتحام الفضاء العام بفظاظة شديدة، واستنساخ نفسها على نحو أمرّ وأدهى من سابقتها في كل مرة، تقتحم عوالم الإعلام من دون استئذان، وتُملي علينا ذاتها بضراوة، تماماً على نحو ما تجلّى عنه الفصل الجديد من هذه الكارثة المديدة، عندما بدأت القوات التركية في اقتحام شرق الفرات، قبل نحو أسبوع، آخذة في طريقها أوهام من ادّعوا الانتصار في حربٍ لم تضع أوزارها بعد، وأحلام قوم تعجلوا الوقوع في وهدة الانفصال، ومزاعم دول تتحرّق لقطف ثمار الميدان قبل الأوان.
إزاء هذا الانعطاف في مجرى نهر التطورات السورية المتلاحقة بسرعة تحبس الأنفاس، لم يكن في مقدور من لم يرفع الضمّادة عن جرحه المفتوح أن يكوّن رأياً متماسكاً حيال هذا الاقتحام العسكري المثير لشتى المواقف والعواطف والتقديرات المتضاربة حسب الأهواء، ولم يستطع كذلك الانخراط، ضميرياً، في هذه الفزعة العربية المُضَريّة، استجابةً لنزعةٍ قوميةٍ ديماغوجيةٍ عمياء، لا ترى سوى الأتراك وحدهم غزاة، بين جيوش عدة دول أجنبية عاتية، وجحافل مليشيات ذات راياتٍ سوداء، تملأ البر والبحر والسماء.
بداية الأمر، رحت ألوم نفسي الموزّعة بين العقل والقلب حيال هذا الاجتياح الجديد، وأسائلها عن إطالة الوقوف على مفارق الطرق، ثم أخذتُ أقرّعها على هذا الارتباك في تشخيص الموقف المبدئي، وتحديد قواعد الاشتباك الأخلاقي مع العملية التركية التي شجبتها العواصم العربية على نحوٍ شبه جماعي، ثم تبارى الساخطون على وسائل الإعلام ومنابر التواصل الاجتماعي في التنديد بها من "كعب الدست" جرّاء ما لحق بقلب العروبة النابض من إهانة، وآل إليه حال القطر العربي السوري العزيز، على يدي غازٍ جديد.
والحق أنني وددت كثيراً ضم صوتي إلى أصوات الغاضبين ضد التوغل التركي، المحذّرين من عواقبه الوخيمة، لو أنني كنت قد سمعتُ من لدن هؤلاء مثل هذا الغضب الساطع لدى التدخل الإيراني من قبل، أو لدى دخول روسيا على الخط، ولكنت هجوتُ أوغاد اليوم على نحو أشد من هجاء أوغاد الأمس، وحدّث بلا حرج عن العرب والأميركيين والجهاديين، وكل من أثخن في الجسد السوري، وحوّل بستان هشام، أو قل درة المشرق العربي، إلى متحفٍ للخراب العظيم.
حيث بدا لي الاعتراض على العملية التركية، بحجّة انتهاكها السيادة السورية المنتهكة أصلاً على رؤوس الأشهاد، والمستباحة من أربعة جيوش كبرى على الأقل، أمراً باعثاً على السخرية السوداء، حتى لا أقول الرثاء، فيما بدا لي البكاء على المنظمات الكردية المخذولة كابراً عن كابر، تلك التي قتلت وحرقت وجرفت القرى، وهجّرت سكانها العرب، وأسمت المنطقة "روج آفا"، وقارفت كل ما يرتكبه احتلال أجنبي غاشم، أمراً لا يتّسق مع أي خطاب أخلاقي، ولا يتعارض، في الوقت ذاته، مع الانحياز المعلن لجانب شعبٍ ظلمته الأقدار العمياء، ولحقّه في تقرير المصير.
خلاصة القول، كل المتورّطين في الأزمة السورية التي أعادت إنتاج نفسها كارثة عامة طامة ارتكبوا أخطاءً جسيمة، وقارفوا الجريمة الموصوفة بحق شعبٍ تهجّر نصفه، وتمزّق نسيجه، وتدمر بلده، وقُتل منه مئات الألوف، وجرى ترويعه قياماً قعوداً، الأمر الذي لا يمكن معه التسامح مع أيٍّ من هؤلاء القتلة، ليس من منظور الاعتبار السياسي فقط، وإنما أيضاً من منظور الخطاب الأخلاقي الذي ينبغي اعتماده مرجعا أوحد، في إجراء المحاكمات التاريخية لكل المتورّطين بهذه المقتلة، بمن فيهم النظام والمعارضة المسلحة.