الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الأسد بدولارين

الأسد بدولارين

08.12.2019
عمر قدور


المدن
السبت 7/12/2019
مع الانهيار الجديد لليرة السورية ووصولها إلى عتبة الألف ليرة مقابل الدولار، شاعت نكتة سورية تقول أن الأسد أصبح بدولارين، عطفاً على كون فئة الألفي ليرة "وهي الأعلى" تحمل صورة بشار الأسد. انهيار الليرة رافقته إجراءات عديدة، منها زيادة الأجور بما يعادل 26 دولاراً سرعان ما انخفضت قيمتها بالتدهور اللاحق على إعلانها، ومنها أيضاً استعراضات لرجال السلطة بمداهمة المحلات التجارية لإجبار أصحابها على عدم رفع أسعار بضاعتهم، وصولاً إلى فرض ضرائب جديدة أعلى على أصحاب الفعاليات الاقتصادية تحت التهديد بالاعتقال.
في الوقت نفسه، وأيضاً مع دخول فصل الشتاء، تواصل قوات الأسد هجومها  الشرس على إدلب، مع اتباع سياسة الأرض المحروقة خاصة على جانبي الطريق الدولي بين دمشق وحلب. ورغم أن تكلفة المجهود العسكري تبقى طي الكتمان إلا أنه لا يصعب تقدير أثره على وضع اقتصادي متدهور أصلاً، أي أن نهج العصابة الحاكمة لم ينحرف للحظة عما هو معتاد، والأولوية فيه للحرب، الأولوية التي صار واضحاً للعيان أنها بالمعنى المباشر على حساب قوت الموجودين تحت سيطرتها. مع التنويه بأن السيطرة على إدلب غير مجزية مقارنة بتكاليف الحملة الاقتصادية، من دون أن نأخذ في الحسبان كلفتها البشرية الكارثية على أهالي المنطقة المستهدفة، وحتى على قوات الأسد.
كانت الأخبار قد نقلت أيضاً في الأيام الأخيرة قيام مرتزقة أنقرة في عفرين بقطع أشجار الزيتون التي تُشتهر بها المنطقة، واعتُبر ذلك نوعاً من التنكيل الإضافي بالأهالي الأكراد. وكانت المصافي النفطية البدائية التي تغذي جزئياً المنطقة بالمحرقات قد تعرضت لقصف بطيران مجهول ما أدى إلى شلّها نهائياً، وهي فرصة إضافية للتربح من عمليات قطع الأشجار والمتاجرة بالحطب من أجل التدفئة "بعيداً عن الاعتبارات السياسية والأخلاقية"، حيث يبلغ سعر الطن ما يعادل 100 دولار. عمليات التحطيب هذه صارت شائعة في العديد من المناطق، وهي تستنزف المخزون الحراجي والأشجار المثمرة، ما يحتاج تعويضه إلى عقود من الزمن.
جرى ربط انهيار الليرة بأزمة المصارف اللبنانية، حتى في بعض أوساط الموالاة من باب التبرير للسلطة، وهذا إذا صحّ نسبياً يدعو للتساؤل عن حجم الأموال المودعة من قبل أثرياء السلطة نفسها في المصارف اللبنانية، وعن سبب هروبها من الداخل. والواقع أن فرضيات عديدة منها ما يحيل الانهيار إلى العقوبات الدولية، خاصة أثرها على طهران التي لم تعد قادرة على دعم بشار مالياً، هذه الفرضيات تقرّ بأن السعر القديم للصرف ليس حقيقياً وكان طوال الوقت خاضعاً للتحكم، وذلك يستدعي التساؤل تالياً عما إذا كان ثمة قرار بتخفيض سعر الصرف أتت لحظته المناسبة مع أزمة المصارف اللبنانية وتراجع سعر صرف الليرة اللبنانية أيضاً.
من السهل اقتصادياً البرهنة، وفق النكتة السورية، على أن السعر الواقعي للأسد قد لا يتجاوز الدولار الواحد. يلزم من أجل ذلك النظر إلى سعر الصرف المتردي كمؤشر نسبي غير دقيق، وأن تراجع سعر الصرف في جزء منه اضطراري، وفي الجزء الآخر هو خيار اقتصادي للسلطة.
ثلاثة اعتبارات أساسية تؤثر اليوم في سعر الصرف، أولها أن سلطة الأسد لم ترفع قبضتها، ولا هي حتى مجرد لاعب ومضارب ضمن مضاربين آخرين. الاعتبار الثاني هو تدني القدرات الشرائية مع هبوط النسبة الساحقة من السوريين إلى ما دون خط الفقر، الأمر الذي يقلل إلى مستوى منخفض جداً من الطلب حتى على المواد الأساسية المستوردة مثل الغذاء والدواء. الاعتبار الثالث هو مجازاً "الركود الاقتصادي"، والتعبير الأدق هو العطالة أو الشلل الاقتصاديين، حيث يغيب الطلب على مستلزمات الإنتاج الصناعي والزراعي، فلا نشهد تضخماً قائماً على ارتفاع معدل النمو الاقتصادي.
ما يجعل التراجع الأخير في سعر الصرف بمثابة هجوم وحشي جديد من سلطة الأسد أن العوامل الاقتصادية الأساسية لم تتغير، فلا هي في سبيل تحرير سعر الصرف، ولا عجلة الاقتصاد بدأت في الدوران كي تتسبب بالتضخم. المؤشر الأهم على كون ما حصل "في جزء معتبر منه على الأقل" مبيتاً هو رفع الأجور مع بدء انهيار سعر الصرف، وليس بعد استقراره. بعد إحداث الصدمة، يمكن للسلطة التدخل لخفض سعر الصرف عن آخر مستوى وصل إليه، فتبدو كأنها حققت إنجازاً بينما تكون قد حققت وفراً بالقياس إلى السعر القديم والقيمة الحقيقية لمعدل الأجور السابق.
بلا أدنى رحمة، تسير السلطة بنهجها الاقتصادي الذي يقسم المستوى الاقتصادي بين شريحتين من دون تدرجات في وسطهما. هناك غالبية عظمى باتت تعتمد على أجور الوظيفة العامة، مع انهيار القطاع الخاص الإنتاجي، وهذه الفئة التي يمكن وصف عمل قسم هام منها بالبطالة المقنَّعة تبقى أوفر حظاً ممن يعانون البطالة التامة، إلا أنها لعائلة تحصل على أجرَيْن بوضع أفضل من البطالة بما لا يزيد عن المئة والخمسين دولاراً في الشهر. الفئة الثانية هي ما تبقى من أثرياء السلطة، بعد هروب قسم منهم وتهريب رأسمال معظمهم إلى الخارج، يُضاف إليهم أثرياء السلطة الجدد من بوابة الحرب. أفراد الشريحة الثانية هم الزبائن الحصريون لمحلات الألبسة أو المطاعم الفخمة، ولكل ما يظهره إعلام الأسد للدلالة على وجود حياة طبيعية في مختلف المدن السورية.
الخبر السيء للنسبة الساحقة المتضررة أن حرب الأسد، التي تُستخدم كذريعة للوضع الاقتصادي البائس وتستنزفه في الوقت نفسه، لن تتوقف قريباً، وليس من مصلحته إيقافها لأنها تغطي على الاستحقاقات التي تليها. لتسديد القروض الإيرانية والروسية، رهن بشار الثروات العامة التي كان ممكناً أن تساعد على تلطيف مآسي المستقبل، وعندما نتحدث عن الضحايا ينبغي ألا ننسى أن الكتلة الأساسية منهم هي بمثابة العصب المفترض للموارد البشرية، فضلاً عن نظيرتها من اللاجئين إلى الخارج.
الخبر الأسوأ أن العصابة لا تخفي جشعها إلى إعادة الإعمار، وتساوم منذ الآن عليه. يعلم الجميع مصير المساعدات التي كان يحصل عليها الأسد من دول الخليج، وهي بدأت منذ حرب تشرين ولم يتوقف آخرها حتى منتصف الثمانينات، ليعاود الحصول عليها بعد موقف الأسد الأب من حرب الخليج في بداية التسعينات. إذا أتيح لبشار البقاء مع إعادة الإعمار حينها سيظهر التضخم الحقيقي، وستكون النكتة الحالية قد أعطت صورته على ورقة الألفي ليرة أكثر بكثير من قيمتها مقابل الدولار.