الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الأسد بدلالة كوهين

الأسد بدلالة كوهين

21.04.2019
عمر قدور


المدن
السبت 20/4/2019
مرّ بلا نفي من أية جهة معنية ما أعلنته الصحافة الإسرائيلية عن أن رفات الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين في طريقها إلى إسرائيل، ويُفهم من الخبر عطفاً على تسليم رفات الجندي زخاريا باومل قبل مدة قصيرة أن رفات كوهين باتت في روسيا، في انتظار إنهاء ترتيبات تسليمها. وإذا أمكن لسلطة الأسد "ومعها جماعة الممانعة" التنصل من مسؤولية تسليم رفات باومل، برميها على "الحليف" الروسي، فإن ذلك سيكون متعذراً مع رفات كوهين، على الأقل من دون الإقرار بكذب مزاعم السيادة، لأن الأخيرة محفوظة منذ عقود بحماية وحرص خاصين جداً.
كما هو معلوم حاولت تل أبيب مراراً استرجاع رفات جاسوسها، ووسّطت لهذه الغاية العديد من الجهات الدولية بلا جدوى. الغريب في الأمر أن سلطة الأسد لم تحاول مرة مقايضة الرفات بمعتقلين ينتمون إلى حلف الممانعة، ومن المحتمل جداً أن تكون هناك صفقات مجزية من هذا القبيل عُرضت عليها ورفضتها. التمسك بالرفات، مع معرفة أهميتها الخاصة لتل أبيب، ربما ينمّ عن تخبئتها من أجل صفقة أكبر وأهم، فهل حان موعد الصفقة الكبرى؟
الكلام السائد اليوم يفيد بأن الصفقة الكبرى تحدث اليوم، وتضمن بقاء بشار مقابل التزامات يقدّمها إزاء أمن إسرائيل والابتعاد عن طهران، وكما نعلم ليس من صفقة لبشار تفوق أهمية بقائه. الكلام نفسه يضع الاعتراف الأمريكي بالسيادة على الجولان، وتسليم رفات باومل ثم كوهين في إطار الثمن الذي تقبضه إسرائيل لقاء موقفها الداعم لبقاء بشار.
في سياق الفرضية السابقة لا نفتقر إلى أولئك الذين يعتبرون الأسد الأب والابن بمثابة عملاء لإسرائيل، لتأتي الصفقة تتويجاً وكشفاً لعمالة طويلة الأمد. وفق هذا التحليل تصبح قصة الممانعة بأكملها نوعاً من التواطؤ بين تل أبيب والمحور المسمى بإسمها، وهذا لا يفسّر سعي الأولى اليوم إلى تقويض كذبة الممانعة ما دامت تؤدي خدمة لإسرائيل. بعبارة أخرى، إذا كانت تل أبيب تريد بقاء "عميلها" بشار، وتعلم أن كذبة الممانعة تخدم هدفاً استراتيجياً مثل بقائه، فلماذا تضحي بذلك الهدف من أجل مكسب "كاسترجاع رفاتي باومل وكوهين" يبقى صغيراً مهما قلنا عن احترامها لحيوات جنودها ومآثرهم؟
يتفرّع من الافتراض السابق الاعتقادُ بوجود دور مركزي لإسرائيل في منع انتصار الثورة السورية، وإذا مضينا به أكثر فسنخلص إلى أن أية ثورة ضد الأسدية ستكون محكومة بالعداء من قبل إسرائيل كرمى لعاملها، ووفق تأثير إسرائيل المتصوَّر على مراكز القرار الدولي سيكون الفشل مصير أية محاولة للتغيير. هذا الاعتقاد يستأنف، من حيث يريد بعض أصحابه ولا يريد بعضهم الآخر، النقدَ الموجَّه إلى الأسدية لأنها ليست مقاوِمة كما ينبغي، وتبدو إسرائيل كأنها خائفة من حكم أكثر راديكالية في جوارها.
هنا، إذا أقررنا بأن إضعاف سوريا على المثال الذي فعلته الأسدية فيه مصلحة لإسرائيل فإن المصلحة الأولى كانت وستبقى للعصابة الحاكمة، والأهم أن مخاوف إسرائيل المتخيَّلة غير موجودة على هذا النحو إطلاقاً، ولنا أن نفكر جيداً في نتيجة أية مواجهة عسكرية بين إسرائيل وسوريا بصرف النظر عمّن يحكمها. فضلاً عن ذلك، نعلم جميعاً أن أي تغيير في سوريا، وإذا أتى بأفضل أنواع الحوكمة، فسيحتاج الحكم الجديد إلى عقود لمعالجة الدمار الذي حل بها، ولن تكون معاداة إسرائيل ضمن أولوياته، إلا إذا أتت سلطة تريد الاستثمار في شعارات العداء على منوال الأسدية.
بعيداً عن التهويل، لإسرائيل مصلحة معلنة في سوريا، فهي تريد "الاستقرار" وقد تفضّل الاستقرار الأسدي بوصفه معروفاً من قبلها ومضموناً، وتريد إبعاد إيران "وتحجيم تركيا" ضمن صراع القوى الإقليمية الثلاث في المنطقة. التخوّف والتخويف من فوضى تلي سقوط الأسد ليسا صناعة إسرائيلية أولاً بقدر ما هما نتاج تجارب تدخل أمريكية آخرها تجربة العراق، ولإسرائيل نفسها تجربة في لبنان فضّلت فيها وجود قوة منظمة تمسك الحدود "حزب الله" على حالة الفوضى. أما في سوريا فقد استنفذت وضعية الاستنزاف العسكري أغراضها المطلوبة خارجياً، ليأتي التدخل الروسي ضامناً لضبط "الفوضى" بموافقة دولية.
صار واضحاً أن جزءاً من التدخل الروسي يستند إلى ضبط الإيقاع بين القوى الإقليمية الثلاث، وبقاء بشار في السلطة هو حتى الآن بمثابة عنوان لوضع مؤقت لم تُنجز فيه الصفقة الكبرى، سواء أكانت الصفقة تتضمن بقاءه أو تتضمن رحيله. موسكو نفسها لا تُظهر رغبة في الإعلان عن بقاء الأسد بقدر ما هي حريصة على إظهار انتصارها، وتفضّل بقاءه موضع مساومة قد تجني منها أكثر من التمسك به. هذا قد يشجع بشار على مزيد من إبداء حسن النوايا إزاء إسرائيل، أكثر مما قد يشجعه الإحساس بالأمان التام، وحتى إذا سلّمنا تماماً بأنه رجل إسرائيل فينبغي ألا يحمل هذا الوصف دلالة نهائية، لأن إسرائيل لم تتوانَ عن التضحية بمقربين أو عملاء لها من قبل، مع التنويه بأن الارتهان لإسرائيل لا يضيف شتيمة أو هجاء للمعني به في هذا السياق.
استعادة إسرائيل رفات قتلاها، من دون مقابل ظاهر للعيان يحفظ قليلاً من ماء الوجه، تجوز قراءتها على محمل صفقة سرية مع بشار، مثلما تجوز قراءتها على محمل اقتناص ما تبقى من بقائه، إذ لن تكون مضمونة بنفس الدرجة مع حكم آخر، أو لا يُراد للسلطة القادمة أن توصم بها. الكثير من الإهانات التي يتلقاها بشار "من حلفائه أولاً" يمكن فهمها على محمل إفهامه حجمه وحدوده، مثلما يمكن فهمها على محمل ازدرائه بحيث لا يصلح كخيار استراتيجي لهم. قراءة الاحتمالين المتعاكسين وراء تسليم رفات كوهين تنطلق من واقع السياسات الدولية التي تتسم بمرونة كافية لاستيعاب المتناقضات، وينطلق أيضاً من أن توجيه الإهانات على الملأ ينطوي على استهلاك الشخص المعني بها في أعين أنصاره أولاً، بحيث أن الإبقاء عليه لاحقاً يعني أن السياسات الدولية انحدرت إلى درك من البذاءة يضاهي الأسدية ذاتها.