الرئيسة \  واحة اللقاء  \  اعترافات لاجئة سورية

اعترافات لاجئة سورية

27.02.2017
علا عباس


الوطن السعودية
الاحد 26/2/2017
بضعة أسابيع تفصلنا عن شهر مارس، ذكرى الثورة السورية، وبضعة أسابيع كذلك تفصلنا عن اكتمال ست سنوات من المأساة السورية المتمددة بلا توقف، سندخل سنة سابعة مصرين على الأهداف نفسها، ومحملين بالأحلام نفسها، ومثقلين بالحنين القاتل نفسه، فهل ستنتهي المأساة قريبا، وهل ستتحقق الأهداف قريبا، وهل سنعود إلى سورية وينتهي هذا الحنين الصارم قريبا؟ طرح هذه الأسئلة نفسها بشكل جدي، للسنة السابعة على التوالي، يحتاج إلى الكثير من الجرأة والبلادة المقدرة على تحمل الخيبة، فما عاشه السوريون في السنوات الماضية يجعل معظم القراءات والتوقعات والتحليلات والآمال آلة نشيطة لتصنيع الألم، وضخه مجددا دون توقف، وهو ما لا أريد فعله اليوم، أثناء كتابة هذه السطور على الأقل.
على مشارف العام السابع من الموت والدماء، بدأ بعض السوريين يعتاد المنافي، والبعض بدأ ببناء حياته الجديدة في المكان الذي رحب به واحتضنه، والبعض الآخر بدأ ينسى، ربما بسبب اليأس من العودة، وربما بسبب التعقيد الذي يصيب قضية بلدنا بشكل متفاقم يوماً بعد يوم، أقول هنيئاً لمن استطاع أن ينسى، ولمن تمكن من التأقلم، وأعترف في الوقت نفسه بأني لم أستطع، رغم أني لم أترك محاولة ولا طريقة إلا وجربتها، فما زالت تلك البلاد عالقة في أطراف روحي كلعنة، ولن أستطيع منها إفلاتا ما حييت، على مشارف العام السابع من الموت والدماء، أعترف بأني هزمت، وأني لم أعد تلك المرأة المتمردة التي رفضت كل القيود وأولها قيود العائلة والطائفة وليس آخرها قيود اللغة، ولم أعد تلك المشاغبة التي رقصت على القبلات الأخيرة لهواء بري مترع بالخوف والرغبة. لست أنا تلك الفتاة البريئة التي طاردت أيائل الغيم في أواخر تشرين/أكتوبر، ولا تلك الصحفية الشريرة التي سرقت أهازيج الحرب ونقلتها عبر البث المباشر للبحر الثائر وهو يغني قبل الفجر ويغني للسمكة الجميلة التي أدمنت لعبة الغواية.
ليس الأمر شبيها بالحالة الشعرية التي تصيب من يغنون لأوطانهم، وليس حنيناً لأشياء محددة، أو أشخاص محددين، ولا تعلقا بتراب جئنا منه ونريد أن نعود إليه، بل هو حالة تفوق كل ذلك، وتجمع كل ذلك، صحيح أن لكل إنسان في هذا العالم وطنه الذي يحبه ويتعلق به ويشتاقه إن غادره، ولكنني أظن أن لعلاقة سورية بنا نحن أبناءها معاني مختلفة، لا تشبه بلدانا أخرى، يندر أن أقابل سوريا مهاجرا هنا في سورية إلا ويعبر عن حنينه لأسوأ ما في تلك البلاد، يذكر أكوام القمامة والطرقات المحفرة ثم يبدأ بالبكاء، أي تعلق جنوني هذا الذي أصابنا بعد ست سنوات من الحرب؟ قبل أعوام استقبلت سورية موجات متلاحقة من اللاجئين الفلسطينيين ثم العراقيين، بعضهم بقي فيها وبعضهم غادرها إلى المنافي أو عاد إلى بلاده، وهم وحدهم يعلمون عما أتحدث، أما أنتم يامن تقرؤون كلماتي هذه ببرود متوقع ومفهوم لن تفهموني كما ينبغي وأنا حقا لا ألومكم، لأنني كنت مثلكم سابقا كتبت في هذه الصحيفة وغيرها عن التأقلم مع الحياة الجديدة، عن المهاجرين والأنصار، عن تجارب الشعوب والهجرات والبلاد الجديدة التي تفتح قلبها للوافدين و(خير البلاد التي حملتك)، كتبت عن النجاح والأجيال المتعاقبة من الهجرات والتي ستستمر بعيدا، كتبت عن كل هذا وأنا أخفي دمعة تجمدت على رأس القلم. لم أرد أن أجرحكم بها، ولا أن أضعف من عزيمة المهجرين قسرا إلى كل مكان، وبقيت دمعتي واقفة على رأس القلم، مدفوعة بدمع غزير تجمع خلفها منتظرا لحظة الانفجار.
سوف أقولها بأعلى صوتي ـ رغم أنها صارت كلمة تقال بالدموع لا بالصوت ـ سورية، النبض الوحيد المتبقي من القلب والروح، لا مستقبل لنا إلا بها وفيها، طال الزمن أم قصر، طال الدمار كل شيء أم لم يتمكن من كل شيء. ولا معنى لحياة ليست فيها، ولا لجهد ليس لها، وليست هدفه.