الرئيسة \  تقارير  \  أنقرة – واشنطن : توازنات مضطربة وشراكات لا غنى عنها

أنقرة – واشنطن : توازنات مضطربة وشراكات لا غنى عنها

29.06.2025
سمير صالحة



أنقرة – واشنطن : توازنات مضطربة وشراكات لا غنى عنها
سمير صالحة
سوريا تي في
السبت 28/6/2025
تباعدت حسابات ومصالح أنقرة وواشنطن لأسباب عدة، منها حماية أميركا لجماعات الكيان الموازي الانقلابية قبل عقد، وتدخلها في الشؤون الداخلية لتركيا، وعلى رأسها الملفان الكردي والأرمني، إضافةً إلى مسائل الحريات والديمقراطية.
ترافق ذلك مع تصعيد دائم في قضايا إقليمية استراتيجية ذات أبعاد سياسية وأمنية واقتصادية، أبرزها الملف السوري، وتوازنات جنوب القوقاز، والتقارب التركي–الروسي، وممرات الطاقة والخطوط التجارية. كما أسهم دخول أطراف ثالثة مثل إسرائيل واليونان وفرنسا في زيادة التوترات وإذكاء الخلافات.
جاءت إزاحة بشار الأسد، وتحرك أنقرة مجددًا في ملف الوساطة الأوكرانية، إلى جانب التهدئة بين أنقرة وواشنطن في ملفات قبرص وإيجه والشرق الأوسط، وعودة ترمب إلى البيت الأبيض، كعوامل جديدة لإعادة فتح قنوات التواصل. وأكدت رسائل الرئيس أردوغان، عقب لقائه نظيره الأميركي في لاهاي، رغبته في بداية جديدة. واكتسب اللقاء أهمية إضافية بعد تعيين توم باراك، المقرب من ترمب، سفيرًا لأميركا في أنقرة ومفوضًا في ملفات إقليمية حساسة. وقد أوحت المواقف والتصريحات المتبادلة بعودة الحوار الحقيقي، وبأن مرحلة التباعد في ملفات كثيرة قد تشهد تراجعًا لصالح مقاربة جديدة في التعامل.
تعاظمت أهمية تركيا داخل الحلف، باعتبارها القوة العسكرية الثانية بعد أميركا، وبفضل موقعها الجيوسياسي ودورها الفاعل في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا.
عُقدت قمة حلف شمال الأطلسي في أجواء مشحونة بسبب المواجهة الإسرائيلية–الإيرانية، ودخول أميركا المباشر في استهداف منشآت نووية داخل إيران، ما يُتوقع أن يترك أثرًا بالغًا على المشهد الإقليمي في مستوياته السياسية والعسكرية والاقتصادية. اختارت أنقرة رفع لهجتها تجاه تل أبيب ونتنياهو بسبب هجماتهم على إيران، لكنها التزمت الصمت حيال التحرك الأميركي. أردوغان، الذي التقى ترمب في لاهاي لمدة ساعة تقريبًا، يدرك أن أولوياته أكبر من مجرد المواقف الرمزية. فهو يريد من واشنطن التزامًا فعليًا بدفع جهود السلام، سواء في المسار الفلسطيني أو السوري، وكذلك فيما يتعلق بإيران وإسرائيل. لكن السؤال المطروح في أنقرة: أي نسخة من ترمب ستظهر هذه المرة؟ وهل يمكن التعويل على وعوده فيما يخص هذه الملفات؟
دعمت تركيا رفع سقف الإنفاق الدفاعي لدول الناتو إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي خلال العقد المقبل. ولم يكن القرار مجاملةً لترمب، بل جاء استجابة لتزايد التهديدات، والحاجة إلى تطوير القدرات الدفاعية والهجومية لمواجهة تمدد النفوذ الروسي والصيني، ولبناء استراتيجية أمنية جديدة تستند إلى الواقع المتغيّر.
تعاظمت أهمية تركيا داخل الحلف، باعتبارها القوة العسكرية الثانية بعد أميركا، وبفضل موقعها الجيوسياسي ودورها الفاعل في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا. في المقابل، تحتاج أنقرة إلى تحديث منظوماتها الصاروخية والجوية، وهي من الدوافع التي تعزز فرص التهدئة بينها وبين واشنطن.
يركز أردوغان على رفع حجم التبادل التجاري بين بلاده وأميركا إلى 100 مليار دولار سنويًا خلال السنوات القادمة. وهو يدرك أن تحقيق ذلك يرتبط بتخفيف العقوبات الأميركية، وإنهاء الحظر التكنولوجي المفروض منذ صفقة "إس-400"، إلى جانب العودة إلى برنامج المقاتلة "إف-35"، وتحديث الأسطول الجوي، والمضي قدمًا في مشروع بناء المنظومة الدفاعية التركية.
تدرك واشنطن أن أنقرة أحرزت تقدمًا كبيرًا في تحقيق الاكتفاء الذاتي في الصناعات العسكرية، وبدأت بتصدير أسلحتها المتطورة. كما تعلم أن تركيا تمتلك بدائل في الأسواق العالمية، في حال تباطؤ التعاون مع الشركاء الغربيين. في الوقت ذاته، تدرك أنقرة أن الحفاظ على شراكتها مع واشنطن في إطار الناتو بات ضروريًا في ظل المتغيرات الجيوسياسية المتسارعة. هذه المعطيات تفرض على الجانبين تجاوز العُقد المرتبطة بالتوتر الإسرائيلي–الإيراني، والبحث عن توازنات جديدة تشمل التعاون مع روسيا والصين في بعض الملفات الحساسة.
أعلن ترمب عن ارتياحه لتعاونه مع نتنياهو في الملف الإيراني، فيما أبدى الأخير حماسة أكبر بعد تأييد ترمب للهجمات على المنشآت النووية الإيرانية. وأكد ترمب أن الضربة كانت مفاجئة، وأن إيران لم تتمكن من إفراغ مواقعها النووية. لكنه عاد وألمح من لاهاي إلى إمكانية بدء مفاوضات أميركية–إيرانية قريبة حول هذا الملف. فهل يخدم هذا التحرك إيران، أم يصب في مصلحة الإقليم؟ وهل قد يمهّد الطريق لمشهد غير مسبوق: طاولة مفاوضات إيرانية–إسرائيلية برعاية أميركية؟ سؤال يقلق أنقرة، لا سيما في ظل تصريحات ترمب المتكررة التي تضع أمن إسرائيل فوق أولويات التوازن الإقليمي.
يتحدث ترمب عن "سلام جديد في الشرق الأوسط"، من دون الإفصاح عن تفاصيله، لكن مواقفه تميل بوضوح إلى الانحياز للمصالح الإسرائيلية على حساب قضايا المنطقة.
لم تُخفِ أنقرة رفضها لهجمات إسرائيل على إيران، لكنها لم تُدلِ بموقف واضح تجاه الهجوم الأميركي. أما ترمب، فأعلن أن السلام بين إيران وإسرائيل بات ممكنًا، وشكر طهران على ما قال إنه تنسيق مسبق بشأن الرد على الضربة الأميركية.
عززت الحرب الأخيرة في المنطقة قناعة الطرفين – تركيا وأميركا – بحاجتهما المتبادلة، وضرورة خفض التوترات الثنائية والإقليمية. فمصير المنطقة لا تحدده إسرائيل أو إيران وحدهما، بل هناك قوى عربية وإسلامية مؤثرة مثل السعودية ومصر والإمارات وقطر، لها دور حاسم في صياغة التوازنات الإقليمية.
يتحدث ترمب عن "سلام جديد في الشرق الأوسط"، من دون الإفصاح عن تفاصيله، لكن مواقفه تميل بوضوح إلى الانحياز للمصالح الإسرائيلية على حساب قضايا المنطقة. وقد ظهر ذلك جليًا في موقفه من الحرب الأخيرة. إن الترويج لبناء السلام عبر أدوات القوة العسكرية بات إحدى الرسائل التي تسعى واشنطن إلى تمريرها، لا سيما بعد استهدافها منشآت نووية إيرانية، على حساب مواصلة آليات التفاوض والحوار، وأمام أنظار المجتمع الدولي والمنظمات الأممية. تركيا، وسواها من دول المنطقة، لن تقبل بتوازنات جديدة تتجاهل الحقوق الفلسطينية أو ما يحدث في غزة، حتى وإن واصلت واشنطن وتل أبيب تذكير العالم يوميًا بـ"الدرس النووي الإيراني".
منذ خمس سنوات، لم يُعقد أي لقاء مباشر بين أردوغان وترمب. وقد شهدت العلاقات بينهما توترًا لاعتبارات محلية وإقليمية كادت أن تعصف بالتعاون الاستراتيجي. ومع ذلك، لم ينقطع التواصل، واستمر التنسيق، واستمرت المصالح المشتركة. وهذا ما يبرهن أن الاعتبارات العملية لا تزال تتغلب على الخلافات الظرفية.
تركيا لا تزال شريكًا لا يمكن التفريط به ضمن التحالف الغربي، وهي في الوقت ذاته لاعب رئيس في معادلات الشرق الجيوسياسية والعسكرية. ومن هنا، ينبغي الإنصات جيدًا لما تطلبه أنقرة من حلفائها، خصوصًا في هذه المرحلة الدقيقة من التوازنات الإقليمية والدولية.