الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أكثر من ربع مليون سوري قيد الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري

أكثر من ربع مليون سوري قيد الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري

28.03.2020
المحامي ياسر الفرحان


 
القدس العربي
الخميس 26/3/2020
بشكل متكرر يصدر نظام بشار الأسد مراسيم العفو العام عن مرتكبي الجرائم، وتتميز جميع هذه المراسيم بانتقائية الجرائم المشمولة بنطاقها، وبتقييدها باستثناءات تضيق من تطبيقها، وتخضعها للتسييس، ولتقدير القضاء المنصاع في معظمه لإملاءات السلطة الأمنية.
ثمانية مراسيم تشريعية تحت عنوان العفو العام صدرت ابتداءً من 2011، آخرها المرسوم رقم 6 لعام 2020 الصادر في 22 آذار/مارس الجاري.
وفيما أوجز عشرة أسباب يُصدر نظام الأسد مراسيم العفو العام لأجلها، أشير في البندين 1 و 2 إلى سببين مباشرين دفعاه للتعجيل في إصدار المرسوم الأخير.
 
الأسباب المباشرة والبعيدة
1- الرد – بالاحتيال – على اهتمام المجتمع الدولي والمحلي برسائل المعارضة التي التحذير من إهمال النظام لتفشي فيروس كورونا في السجون، وعلى إبدائها قلقها إزاء الخوف من استغلال النظام للفيروس في تبرير إبادة المعتقلين، وفي هذا تعمد النظام عدم قيد العفو للمصابين بمرض عضال بسن محدد.
2- توجيه رسائل إلى المجتمع الدولي من أجل ملامسة الاهتمام بأزمة اللاجئين، إثر موجات التدفق الأخيرة إلى اليونان صوب أوروبا، ومحاولة النظام الإيحاء بإمكانية لعبه دوراً في هذه الأزمة.
3- الضغط على اللاجئين وتخويفهم من إمكانية إعادتهم للحد من حريتهم في التعبير خارج مناطقه.
4- استخدام العفو للادعاء بتوفر البيئة الآمنة اللازمة لإجراء الانتخابات وإعادة الاعمار.
انتقاء محكومين محددين بالذات، أو ملاحقين محددين بالذات للعفو عنهم.
5- انتقاء جرائم محددة جنائية الوصف لإطلاق سراح مرتكبيها.
6- انتقاء حالات الفرار لتشمل المؤيدين الفارين – بشكل اعتيادي ـ لأسباب تتعلق بطول فترة الخدمة وصعوباتها ومخاطرها، وتستثني المنشقين لأسباب ومواقف سياسية وأخلاقية ووظيفية ووطنية.
7- تعبئة القطعات المسلحة للنظام من خلال إعادة الفارين وإخضاع المحكومين للتجنيد والاحتياط ضمن السن الطويلة المحددة.
8- جني لأموال لصالح خزينة النظام من الرسوم القضائية والمبالغ المستحقة.
9- وجني أموال خاصة لمؤيدي النظام جراء السمسرة والرشوة، المعتاد عليها، في توفير الدخول اللازمة لهم، من أجل تخفيف سخطهم عليه لسوء الأحوال المعيشية.
10 -استخدام العفو سلاحاً في الحرب النفسية، بإيصال رسائل سياسية مزيفة إلى مؤيديه ومعارضيه وتحمل الجوانب التالية:
– الإيحاء واهماً بأنه سلطة شرعية.
– الإيحاء واهماً بأنه انتصر وخرج قويا ليعفو عن المهزومين.
– الإيحاء واهماً بأنه يتمتع بالقدر الكافي من الأخلاق ليعفو.
– الإيحاء واهماً بأنه يحمل منطق الدولة وفلسفتها في رعاية أفرادها ومعالجة أوضاعهم بحكمة.
وفيما نتابع عدداً محدوداً جداً من المعارضين المفرج عنهم، وبالرغم من أهمية إنقاذهم، يُبقي النظام ما يزيد على ربع مليون إنسان سوري قيد الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري؛ مستخدماً الإفراج عن عدد يقدر بالعشرات لخلط الأوراق.
 
التحليل القانوني للنصوص
تتشابه المواد في نصوص المراسيم التشريعية للعفو العام الصادر عن بشار الأسد، وتحليلها يقودنا إلى استنتاج الآثار والمقاصد، موزعة فيما يأتي على ست مجموعات:
 
أولاً- الجرائم المنصوص عليها في قانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام 2012:
ويشمل مرسوم العفو الأخير في مادته رقم 5 كامل العقوبة في الجرائم المنصوص عليها في المادة 2 إذا كان الفاعل سورياً والفقرة 2 من المادة 7 والمادة 8 والمادة 10 من القانون رقم 19 لعام 2012، متعمداً بانتقاء أربع حالات، ترك البقية خارج العفو، بطريقة تتيح لقاضي الموضوع توصيف الجرم بما ينسجم مع الإملاءات الأمنية، مستخدماً في تعليل الأحكام سلطته التقديرية الواسعة، التي لا تنسجم مع واقع ضعف أو انعدام استقلال القضاء.
وبالنظر إلى التعريفات الواردة في المادة 1 من قانون الإرهاب لكل من العمل الإرهابي، والمنظمة الإرهابية، والتمويل، نلاحظ استهداف النظام المعارضين من خلال صياغة مشرعيه للنصوص بطريقة احترافية.
لا يشمل العفو المحكومين والموقوفين والملاحقين، استناداً لباقي المواد في قانون مكافحة الإرهاب، ومن ذلك على سبيل المثال:
– المادة 3 :المحال بموجبها ناشطون سلميون وسياسيون بتهمة العمل على تغيير نظام الحكم من خلال منظمة إرهابية.
يُعرِّف القانون 19 لعام 2012 المنظمة الإرهابية بدلالة العمل الإرهابي، المُعرّف في المادة 1 منه، بهدفه في إيجاد حالة من الذعر بين الناس أو الإخلال بالأمن العام أو الإضرار بالبنى التحتية أو الأساسية للدولة، باستخدام (أي) أداة تؤدي هذا الغرض، وليس فقط باستخدام الأسلحة.
– المادة 4 : وعليها يستند في تجميد وحجز أموال كثير من المعارضين.
– المادة 6 : التي تضع التصريحات السياسية الداعمة للدفاع المشروع عن النفس، في معرض التهديد بعمل إرهابي وتعاقب عليه بالأشغال الشاقة.
– المادة 8: التي تعاقب على الترويج للأعمال الإرهابية – واسعة التعريف – بتوزيع المطبوعات أو المعلومات بما في ذلك على وسائل التواصل الالكترونية؛ ورد النص على شمولها في المرسوم رقم 6 فيما تم استثنيت من المرسوم رقم 20.
الكثير من سجناء الراي والناشطين السلميين والمدافعين عن حقوق الإنسان والمسعفين الطبيين والعاملين في حق المساعدة الإنسانية والإعلاميين، محالين إلى القضاء وفقاً لهذه المواد غير المشمولة بمراسيم العفو، الأمر الذي يؤكد الاستنتاج بصدورها لغايات إعلامية وسياسية، وتطبيق احكامها بشكل انتقائي ومحدود جداً.
 
ثانياً – جرائم الفرار الداخلي والخارجي:
ويشمل خلالها المرسوم في أحكامه عفواً عن مرتكبي جرائم الفرار الداخلي والخارجي المنصوص عليها في المواد 100 و 101 من قانون العقوبات العسكرية الصادر بالمرسوم التشريعي 61 لعام 1950 مستثنياً بذلك حالات الفرار المنصوص عليها في المواد 102 و 103 من قانون العقوبات العسكري والتي يوصّف النظام الفارين المنضمين إلى صفوف المعارضة وفقها، ويحاكمهم على أساسها، معتبراً أنهم بفرارهم قد انضموا للعدو أو أن فرارهم حصل نتيجة مؤامرة.
ويشترط للاستفادة من أحكام مراسيم العفو عدم وجود ادعاء شخصي أو شكوى، ليبقى بذلك الباب مفتوحاً أمام النظام لملاحقة المشمولين بالعفو – مرة أخرى – من خلال تحريض أحد مؤيديه لتقديم شكوى بحق أي من الأفراد، لابتزازهم وإخضاعهم أو الانتقام منهم؛ ولقد رصدنا في سلوك النظام في مناطق المصالحات حالات مماثلة بحق المشمولين بالتسوية. ويشترط أيضاً أن يسلم الفارون أنفسهم خلال 3 أشهر بالنسبة للفرار الداخلي وخلال 6 أشهر بالنسبة للفرار الخارجي حتى يستفيدوا من العفو.
– يشمل مرسوم العفو شريحة واحدة فقط تتمثل في الفارين الذين لم يشاركوا بأعمال المعارضة أو الثورة، ويهدف النظام إلى تسوية أوضاع هذه الشريحة لاستخدامها من جديد، مثلما يهدف إلى تسوية أوضاع بعض عملائه المبعوثين من قبله إلى صفوف المعارضة لانتهاء مهامهم.
 
ثالثاً – الجرائم جنائية الوصف:
يغطي مرسوم العفو كسابقه جرائم جنائية الوصف نشرح بعضها فيما يلي:
1 -الخطف، المنصوص عليه في المادة 1 من المرسوم التشريعي رقم 20 لعام 2013، ويعفى مرتكب هذه الجريمة من كامل العقوبة، في حال تعاون الخاطف مع السلطة، ليخدم في آثار النص الشبيحة والعصابات القريبة من النظام، التي تخرج عن سيطرته أحياناً، وبغرض إعادتها إلى الطاعة.
2 – جرائم التهريب المنصوص عليها في المرسوم التشريعي رقم 13 لعام 1974، مشمولة بالعفو عن كامل العقوبة السالبة للحرية، في حال تسديد الغرامات للجمارك، ويهدف من ذلك تحقيق إيرادات مالية لمؤسساته المنهارة اقتصادياً، وأيضاً خدمةً لمافيات تهريب الدخان المرتبطة به.
3 – تعاطي المخدرات والجرائم المنصوص عليها بعقوبات جنائية مؤقتة في قانون المخدرات السوري رقم 2 لعام 1993 مشمولة بالعفو.
4 – عدداً من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات رقم 148 لعام 1949 مثل الرشوة، والتزوير، ومنح الموظف للغير بيانات كاذبة، واتلاف أو حرق أو أخذ وثائق عامة أو سجلات أو صكوك، وتقليد أو استعمال الأختام المزورة، وتدوين أمور كاذبة في سجلات الدولة، وتسليم وثائق كاذبة للغير وإن الحقت الضرر بأحد الناس فهي مع كل ماسبق مشمولة بالعفو، الأمر الذي يثير مزيد من القلق تجاه انتهاك النظام لحقوق السكن والملكية وبحمايته الوسائل والأشخاص المشتركين بهذه الجرائم.
5 – الجرائم المشمولة بالمرسوم 54 لعام 2013 لمنع التعامل بغير الليرة السورية، ولا يشمل العفو المصادرات، ويشترط تسديد الغرامات إلى مصرف سوريا المركزي؛ تبلغ الغرامات مثلي قيمة المدفوعات أو السلع، ومع المصادرات من كامل المبالغ والسلع المتداولة يتبن الهدف الاقتصادي للنظام من تشميل الجرم بالعفو.
6 – إضعاف الشعور القومي وإثارة النعرات الطائفية، وقصد العصيان، والمؤامرة، والانتساب إلى جميعات تهدف إلى تغيير كيان الدولة، المنصوص عليها في قانون العقوبات السوري مشمولة بالعفو، مع الإشارة إلى أن المتهمين بهذه الأفعال يحالون إلى القضاء بموجب القوانين الاستثنائية الصادرة ما بعد 2011 كقانون الإرهاب، وتكيف الدعوى على أساس مواد هذه القوانين، غير المشمولة كما أسلفنا بمراسيم العفو، وما النص عليها في هذه المراسيم إلا لذر الرماد في العيون.
 
مزيد من الحالات المستثناة من العفو
بالرغم من تحديد مراسيم العفو للمواد المشمولة بأحكامه، وبالرغم من أن كل المواد التي لم ينص المرسوم على العفو عنها تعتبر من الناحية العملية والقانونية خارج العفو، يعتمد مشروعو النظام في الصياغة النص على استثناء عدد من الحالات – لغايات سياسية غالباً – وفقاً لما يلي:
1 – الضرر الشخصي، ونلحظ في صياغته شقين:
عدم اعتبار تسديد التعويض إسقاطاً للحق الشخصي، متنافياً مع بداهة لزوم تسديد التعويض معرفة المتضرر بالدعوى، والسماح بتقديم الادعاء الشخصي (لاحقا للنظر بالدعوة ولاحقاً لصدور الحكم) خلال ستين يوما من تاريخ نفاذ المرسوم، خلافاً للأصول،
صيغت المادة بطريقة تتيح للأجهزة الأمنية تحريك الشبيحة لمزيد من الهيمنة والتدخل في مصير المعتقلين، وبشكل يبرر استمرار الاعتقال في مناطق التسويات الخاضعة لتفاهمات مع روسيا.
2 – المتوارون عن الأنظار غير مشمولين بالعفو إلا إذا ما سلموا أنفسهم إلى السلطات، وبهدف قطع طريق وفرص عودة المهجرين من لاجئين ونازحين، وإتماماً لسياسات النظام بإعادة هندسة المجتمع، والتخلص من الجراثيم مثلما يكرر بشار الأسد وأتباعه دوماً.
3 – في رسالة سياسية واضحة، موجهة إلى المجتمع الدولي يذكر النظام بأوراق الإرهاب التي بين يديه، ويكرر في المراسيم الصادرة النص على استثناء غير السوري من العفو.
4 – حزمتان منتقاة من بعض الجرائم قانون العقوبات يستثنيها النظام من أحكام العفو في صياغة تحاول – عبثاً – الربط ما بين قدسية الحزمة الأولى لديه، ودونية الحزمة الثانية في تقييم المجتمع:
تشمل الحزمة الأولى ذم أو قدح رئيس الدولة أو الجيش أو مؤسساتها، وإعاقة الموظف تطبيق القانون، أو عدم تحصيله الرسوم، وعدم إطاعة أوامر الرئيس المباشر، والاستمرار في الوظيفة بعد كف اليد – في مرامي تذهب بآثارها إلى موظفي الخدمة في المناطق الخارجة عن سيطرته – وارتداء الزي الرسمي أو شارات الدولة بدون حق أو شارات أجنبية، والمنع من الحقوق المدنية. وتشمل الحزمة الثانية جرائم السفاح والاغتصاب والشذوذ والاعتداء الجنسي على القاصر. بالإضافة طبعا إلى استثناء المعتقلين والمطلوبين من المعارضين وفقا لما هو مبين – أعلاه – في الفقرات أولاً وثانياً في التحيل القانوني للنصوص.
 
الآثار
1 – من الناحية العملية سيطبق العفو على عدد محدد من مؤيدي النظام ومرتكبي الجنايات، وعلى من أجروا مصالحات من خلال بعثاته الدبلوماسية للنظام في دول اللجوء ومراكزه في مناطق سيطرته – بعد ضمان ولائهم السياسي أو تجنيدهم الأمني، وعلى عدد محدود جداً من معتقلي المعارضة لذر الرماد في العيون وخلط الأوراق واستخدامها في محاولة فاشلة لإفلات نظام الأسد من العقاب.
2 – لن يطبق العفو على ملايين النازحين واللاجئين الذين تعمد النظام تهجيرهم القسري في سياسة متعمدة وواسعة النطاق، ولن يشمل في نتائجه إجراءات الحجز أو المصادرة.
3 – تستخدم روسيا مراسيم العفو لإحياء محاولاتها في مشاريع عودة اللاجئين، وإعادة العلاقات العربية مع النظام، وإعادة الإعمار.
4 – يستغل العفو من قبل الحكومات العنصرية في دول اللجوء مثل لبنان، ومن قبل الأحزاب والشخصيات المعارضة للسياسات الحكومية في عدد من الدول الملتزمة باتفاقية جنيف للاجئين.
5 – يضع المعارضة في تحديات لمواجهة ما سبق سياسيا وإعلاميا وقانونيا.
أخيراً، أشير إلى أن القبول بمبدأ العفو يعتبر إقراراً بارتكاب جريمة، وهذا يتنافى مع فلسفة ومقتضيات العدالة، التي تستدعي لتسوية أوضاع المنشقين والمعارضين إلغاء الأحكام الصادرة بحقهم وإبطال جميع آثارها. والسوريون بفطرتهم أو خبرتهم يدركون هذه القاعدة، ومع انعدام ثقتهم بالنظام، ورفضهم العودة إلى حضنه نلاحظ أن غالبيتهم الساحقة لا تعير العفو اهتماماً، لدرجة أن أي منهم لم يسأل – مجرد سؤال في خاطره –ما إذا كانت أحكام مرسوم العفو تشمله.
العدالة مقبلة لامحالة، بإنصاف الضحايا، ومساءلة المتورطين في جرائم الإبادة، وإن غدا لناظره قريب. سنرى من يملك الحق في العفو، ومن سيحَاكم على ارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
 
باحث في حقل حقوق الإنسان