الرئيسة \  تقارير  \  أسئلة الديمقراطية في الانتخابات السورية

أسئلة الديمقراطية في الانتخابات السورية

16.09.2025
حسين عبد العزيز



أسئلة الديمقراطية في الانتخابات السورية
حسين عبد العزيز
العربي الجديد
الاثنين 15/9/2025
في مناخ سياسي حسّاس تمرّ به سورية منذ سقوط نظام الأسد، قرّر الرئيس أحمد الشرع إجراء انتخابات برلمانية وفق صيغة وآلية قيل إنّهما تتناسبان مع خصوصية المرحلة هذه. وقد يبدو أنّ الركون إلى الخصوصية التاريخية أصبح ظاهرة مُنتشرة في دول كثيرة في العالم الثالث منذ تسعينيات القرن الماضي، لا سيما حينما يتعلّق الأمر بتشكيل نظام سياسي جديد على أنقاض نظام الاستبداد القديم، أو حين يتعلّق الأمر بإجراء إصلاحات سياسية جادة.
هنا، يتساءل مراقبون كثيرون: هل الآلية الانتخابية المُعتمدة في سورية الأمثل في هذه المرحلة، وأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان؟ أم ثمّة خيارات واسعة لتشكيل نظام انتخابي، حتى لو كان مرحلياً، أفضل مما هو مُعتمد حالياً؟ ويحقّق شروط تمثيل سياسي وتقاسم للسلطة، وهو الغرض النهائي من إجراء الانتخابات؟
تتطلّب الإجابة عن هذه الأسئلة إلقاء نظرة على آلية الانتخابات، وما الغاية من هذه الآلية تحديداً؟ ثم تناول العملية الانتخابية من حيث الشكل والمضمون ضمن إطار النظام السياسي ككل، أي من خلال وضع العملية الانتخابية في سياق ما ستنتجه من صلاحيات للبرلمان والحكومة والرئيس، وبالتالي، تحقيق نظام فصل السلطات. لذلك، السؤال الرئيس المطروح هو، هل تحقّق انتخابات مجلس الشعب هدف الديمقراطية الرئيس، حتى لو في الحدود المقبولة ضمن سياق تاريخي محكوم بخصوصية سورية؟ والمقصود بهدف الديمقراطية تحقّق السمات الأولية لأيّ عملية انتخابية، أي توافر مواصفات الحدّ الأدنى، أن تكون الانتخابات حرّة وشاملة لمجموع الشعب ونزيهة.
انتخابات بلا أحزاب
تجري "الانتخابات البرلمانية" المُرتقبة في سورية على مستوى الأفراد، وليس على مستوى الأحزاب، وهي ظاهرة موجودة في بعض الدول التي تمتلك خصوصية اجتماعية.
ثمة ثلاثة أنواع من الأنظمة السياسية التي لا تتبنّى نظام الأحزاب: الأولى، الأنظمة الدينية الخالصة، مثل الفاتيكان وإيران. والثانية، الملكيات التقليدية كما في حالة دول الخليج العربي. والثالثة، الأنظمة التي تشبه قديماً ما سُمّيت المدينة ـ الدولة، مثل جزر كوكوس قرب أستراليا، جزر الفوكلاند قرب الأرجنتين، ولايات ميكرونيزيا الموحّدة قرب أستراليا، توفالو المعروفة باسم جزر إليس في عمق المحيط الهادئ، إقليم سانت هيلانة جنوب المحيط الأطلسي.
في كلّ هذه الحالات الثلاث السابقة (باستثناء إيران والسعودية) ليس ثمّة انعكاسات سلبية تهدّد النسيج السياسي ـ الاجتماعي لهذه الدول، كلّ لأسبابه الخاصة، ففي حالة الفاتيكان، ليست ثمّة دولة بالمعنى العملي كما هو حال باقي الدول، إذ لا وجود لشعب في الفاتيكان، وإنما أخذت صفة الدولة باعتبارها كياناً دينياً مستقلاً له إرثه التاريخي ومكانته الوجدانية والروحية لدى المسيحيين، ورمزاً للأبهة الدينية التي تشكّلت عبر التاريخ. وفي دول الخليج العربي، ثمّة قليل من السكان، مع تجانس هُويّاتي في أغلبها، وفورة مالية كبيرة تجعل الجميع متساوين في الفرص الاقتصادية، وبالتالي، لا وجود لفقراء وأغنياء بالمعنى الموجود في الدول الكبيرة، غنية أم فقيرة. والتفاهمات الاجتماعية ـ السياسية ذات البُعد القبلي مع الفورة المالية تجعل الدولة والمجتمع في حالة استقرار ورغد.
وفي الحالة الثالثة، ثمّة دول صغيرة جدّاً بعدد سكان قليل جدّاً، ففي حالة سانت هيلانة، لا يتجاوز عدد السكان ستة آلاف نسمة، أي نحن هنا أقرب إلى تجمّع سكاني صغير منه إلى المجتمع الواسع. لكن هذا النوع من الأنظمة ستكون له تأثيرات سلبية كبرى في الدول والمجتمعات الكبيرة، كحال إيران والسعودية، وإذا كانت الوفرة المالية من جهة وشرعية الملكية من جهة ثانية تضمنان الاستقرار في السعودية، فإنّ الأمر مختلف في إيران، إذ كان غياب الأحزاب السياسية من أجل إيجاد نظام سياسي مستقر لا تنشأ فيه قوى تهدّد المرجعية الدينية الحاكمة، ممثّلة بمرشد الثورة، الأمر الذي حال دون تطوّر الديمقراطية الإيرانية، وجعل من العملية الانتخابية أداة للهيمنة أحادية الجانب عقوداً.
غياب الأحزاب في الانتخابات التي تجري في مجتمعات مفتوحة، يُضعف التمثيل الشعبي وينتج فراغاً في البرامج السياسية
وعلى الرغم من أنّ المادة 14 من الإعلان الدستوري تقول: "تصون الدولة حق المشاركة السياسية وتشكيل الأحزاب على أسس وطنية، وفقاً لقانون جديد"، إلا أنّ الانتخابات الحالية ستجرى من دون أحزاب سياسية، وهو إجراء يبدو أنه مقصود، للحيلولة دون نشوء منظومة أو سلطة سياسية متنوّعة بما يهدّد السلطة الحالية التي تنظر إلى الحكم ضمن منظار "ولاية التغلب" الموجودة في الثقافة الإسلامية التاريخية، أو ربّما نتاج رؤيتها الأيديولوجية السياسية التي تعتبر نظام الأحزاب يشكّل عامل فرقة في حالة المجتمع السوري، بما يذكّر بموقف حسن البنا من الأحزاب السياسية، أو ربّما في حالة ثالثة اجتهدوا أنّ المرحلة الحالية لا تتحمّل وجود أحزاب لن تكون ذات توجّهات سياسية خالصة.
وبغضّ النظر عن أسباب غياب منظومة الأحزاب، ستكون النتيجة على النحو التالي: هيئة "تشريعية" وحكومة تابعتان أو ذواتا ولاء تام للسلطة الحالية، وبالأحرى لرئيس الجمهورية، لأنّ هرمية النظام السياسي مبنية تنازلياً من أعلى إلى أسفل، وليس العكس من الأسفل إلى الأعلى. فضلاً عن ذلك، وفي غياب أحزاب سياسية، ستنعدم البرامج السياسية ـ الاقتصادية ـ الاجتماعية الكبرى في بلد يتلمّس طريقه بعد عقود من الاستبداد وتصحّر الحياة السياسية.
والأهم أنّ الأصوات الأخرى، خصوصاً أصوات الأقلية، ستغيب عن هذا المجلس، وإن وجِد بعض الشخوص من الأقليات أو شخصيات ذات توجّهات أيديولوجية وسياسية مختلفة تماماً عن توجّهات السلطة، فسيبقى تأثيرها صفريّاً في غياب الأحزاب بوصفها مؤسّسات وسيطة بين الدولة والمجتمع، وجزءاً رئيساً في أيّ مجتمع سياسي حديث.
الآلية الحالية تحول دون مشاركة شعبية في الانتخابات
يتفق علماء السياسة على أنّ غياب الأحزاب في الانتخابات التي تجرى في مجتمعات مفتوحة يضعف التمثيل الشعبي ويخلق فراغاً في البرامج السياسية، ما يؤدّي إلى انتشار الخطاب الشعبوي والاعتماد على الانتماءات الشخصية والقرابية بدلاً من الرؤى الوطنية، الأمر الذي يضعف مؤسّسات الدولة ويجعل الهيئات التشريعية غير فعّالة، حيث تتشكّل التحالفات المؤقّتة لمصالح ضيقة بدلاً من بناء برامج قوية ومستقرة.
قد يُحاجج بعضهم بأنّ الوقت لا يسمح بتشكيل أحزاب يتطلّب تشكيلها وقتاً طويلاً، غير أنّ هذا الرأي لا يمتلك مقوّمات مُقنعة، إذ ستجرى الانتخابات بُعيد سقوط نظام الأسد بنحو عشرة أشهر، وإذا ما كانت هذه المدّة غير كافية لتشكيل الأحزاب، فكان بالإمكان تأجيل العملية الانتخابية أشهراً أخرى، إذا كان المُراد تشكيل منظومة انتخابية تكون مقدّمة لبناء نظام ديمقراطي تعددي حقيقي، خصوصاً أنه لا توجد ظروف ضاغطة لإجراء الانتخابات مع الانقسام الاجتماعي السياسي القائم.
في هذه الحالة، ثمة خياران لا ثالث لهما: إجراء انتخابات وفق منظومة سياسية تشمل الجميع وتساوي بين الجميع، أو تؤجّل الانتخابات إلى حين توفّر المناخ السياسي واللوجستي المناسب.
مجمع انتخابي
بغضّ النظر عن الحجج والأسباب التي قدّمتها السلطة في دمشق حيال اعتماد هذه الآلية الانتخابية، وهي، في نظر الكاتب، غير منطقية لا يمكن الدفاع عنها، فإنّ الآلية الحالية تحول دون مشاركة شعبية في الانتخابات.
تقوم الآلية الانتخابية على تأليف لجان مُختارة من قبل السلطة، مهمّتها اختيار هيئات ناخبة، على أن يكون أعضاء هذه الهيئات بمجملها سبعة آلاف شخص، تشمل 11 محافظة من أصل 14 محافظة، ويحقّ لهؤلاء في الهيئة وحدهم الترشّح للانتخابات، ثم ينتخب هؤلاء المرشّحون داخل الهيئة الناخبة نفسها أعضاء مجلس الشعب، أي نحن هنا أمام انتخابات غير مباشرة لا يُشارك الشعب فيها.
لماذا هذا النموذج من الانتخابات؟ يمكن الرجوع إلى حالتين، واحدة محلية وإقليمية وأخرى دولية... في عشرينيات القرن الماضي، شهدت سورية والعراق انتخابات برلمانية، واستُحدث نظام انتخابات مزدوّجة، ينتخب فيها الذكور أعضاء هيئة انتخابية محلية تقوم بدورها بانتخاب واحد من أعضائها ليمثّل الدائرة. كان الهدف ضمان وصول مُلاكي الأراضي الكبار إلى البرلمان، والحيلولة دون تحويل الانتخابات إلى منصّة عامة تسمح بدخول أفراد من طبقات الشعب الدنيا. وقد أنتج هذا النموذج ردّ فعل شعبياً لم يظهر بوضوح في حالة سورية إلا مع سيطرة حزب البعث على السلطة عام 1963، وما نتج عنه لاحقاً من هيمنة الريف على المدينة، فجرت عملية ترييف للسلطة ظلّت مستمرّة.
يمكن وصف النظام السياسي السوري بأنه استبدقراطي، أي هو نظام استبدادي، بمعنى احتكار أحادي للسلطة، وديمقراطي من حيث اعتماده أدوات ديمقراطية (الانتخابات)
اعتمدت الولايات المتحدة بُعيد الاستقلال نهاية القرن الثامن عشر نظام المجمع الانتخابي جواباً عن مشكلتين رئيسيتين وحلّاً لهما: الأولى الموازنة بين الولايات الكبيرة والصغيرة من حيث عدد السكان، والثانية إبعاد أصوات السود من الانتخابات مع إصرار ولايات الجنوب على إشراكهم للحصول على أصوات أكثر مقارنة بولايات الشمال التي يغلب فيها عدد المواطنين البيض الذين يحقّ لهم الانتخاب. وجاء الحل بإجراء انتخابات غير مباشرة لمجلس النواب، حيث يقوم سكان كلّ ولاية بانتخاب مُمثلين عنها في المجمع الانتخابي، وهؤلاء ينتخبون الرئيس، وبهذا تصبح العملية الانتخابية في نهاية المطاف محصورة بالنخب.
وعلى الرغم من استمرار هذا النموذج في الولايات المتحدة، جعلت الثقافة السياسية المُتجذّرة في النُخب والشعب من جهة، وقوّة المؤسسات والمجتمع المدني من جهة أخرى، هذا النموذج تقليداً سياسيّاً خاصّاً بأميركا، لا يؤثّر سلباً على النظام الديمقراطي. غير أنّ تطبيق مثل هذا النموذج في سورية الآن يعني إبعاد الشعب عن ممارسة حقيقية للديمقراطية، وبالتالي، جعل السلطة ومؤسّسات الدولة السيادية محصورة بأيدي فئة معينة. وهكذا يصبح المشهد السياسي في سورية: رئيس على رأس السلطة التنفيذية من دون انتخابات، وبرلمان مُختار من فئة قليلة، هي نفسها مُختارة من السلطة.
حكومة ورئيس غير منتخبين
في الحالة السورية، نحن أمام نظام سياسي جديد، لا هو برلماني كامل ولا هو رئاسي كامل وفق الأنظمة البرلمانية والرئاسية في الدول الديمقراطية... الحكومة في النظم البرلمانية تُنتج من البرلمان المنتخب، وهي مسؤولة أمام البرلمان، ولها صلاحيات واسعة تمكّنها من تنفيذ سياساتها، ويعتبر رئيسها أعلى سلطة تنفيذية في النظام البرلماني. غير أنّ عدم وجود رئيس حكومة في سورية وعدم وجود أحزاب في البرلمان وعدم تمثيل البرلمان لمجموع الشعب تجعلنا أمام نظام غير برلماني. في المقابل، يُعتبر النظام الرئاسي الديمقراطي النظام القائم على الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولكلّ منهما مهامه، وهو نظام يتسم بازدواجية الشرعية: شرعية الرئيس المُنتخب بشكل مباشر من الشعب، وشرعية البرلمان المُنتخب أيضاً بشكل مباشر من الشعب، ويمكن للعمليتين الانتخابيتين أن تجريا في وقت واحد أو في وقتين مختلفين.
لا يمكن وصف نظام سياسي ما بأنه ديمقراطي من دون وجود قضاء مُستقل ضمن نظام فصل السلطات
في الحالة السورية الحالية، ثمّة نظام سياسي لا يتمتّع الرئيس فيه بشرعية أحادية ولا ثنائية، إذ إنه غير منتخب، وبالتالي، يفتقر هذا النظام إلى الشرعية الرئاسية، في وقتٍ يفتقر فيه أيضاً إلى الشرعية البرلمانية، لأنّ البرلمان غير مُنتخب من عموم الشعب.
يمكن وصف النظام السياسي السوري بأنه استبدقراطي، أي هو نظام استبدادي، بمعنى احتكار أحادي للسلطة، وديمقراطي من حيث اعتماده أدوات ديمقراطية (الانتخابات). وينطبق تعريف جانو بونوا لمثل هذا النوع من الأنظمة الرئاسية، فهو "لا يحترم ما هو أساسي في النظام الرئاسي، وهو التقاسم المتوازن للسلطات نتيجة استئثار الرئيس بالنفوذ السياسي كله".
لمنصب رئيس الوزراء أهمية كبيرة في النظم المختلطة (رئاسية، برلمانية) لأنه يخفّف من سطوة صلاحيات الرئيس ويُحدث توازناً بين السلطات، حتى لو كانت صلاحية رئيس الوزراء متوسّطة القوّة كما هي الحال في دول مثل النمسا وبلجيكا الدنمارك واليابان والسويد، أو مُنخفضة الصلاحيات كما هي الحال في دول مثل هولندا وأيسلندا وإيطاليا والنرويج. وتشبه الحال السورية الراهنة حال الولايات المتحدة التي لا يوجد فيها رئيس حكومة، لأنّ الوزراء تابعين مباشرة لرئيس الدولة، لكن فوارق جوهرية بين الحالتين: في أميركا نحن نتحدّث عن دولة ذات إرث تاريخي عريق في الديمقراطية والليبرالية، والرئيس وحكومته يتغيّران دورياً، فضلاً عن أنّ قراراتهما المصيرية تتطلّب موافقة الكونغرس بشقيه: مجلس النواب ومجلس الشيوخ المنتخبين مباشرة من الشعب. وهذا التشابه في الشكل السياسي لا يؤدّي إلى تشابه في النتائج، فثمّة هوة سياسية ودستورية هائلة بين الحالتين وتاريخ من الكينونة السياسية متباين للغاية.
القضاء وفصل السلطات
وفق معايير عصرنا الحالي، لا يمكن وصف نظام سياسي ما بأنه ديمقراطي من دون وجود قضاء مُستقل ضمن نظام فصل السلطات، فإلى جانب انفصال السلطتين التشريعية والتنفيذية عن بعضهما، مُنحت السلطة القضائية استقلالية أيضاً باعتبارها السلطة المنوط بها ضمان الحقوق والحريات في دولة القانون والمؤسسات.
في سورية الأمس واليوم، لا وجود لهذا الفصل، وكما هو الأمر بتبعية السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية كما جاء أعلاه، تخضع السلطة القضائية هي أيضاً للسلطة التنفيذية، إذ ينصّ البند الثاني في المادة 47 من الإعلان الدستوري على: "تتكون المحكمة الدستورية العليا من سبعة أعضاء يسميهم رئيس الجمهورية من ذوي النزاهة والكفاءة والخبرة".
هذا البند يتعارض تماماً مع نص (المادة 2) "تؤسس الدولة لإقامة نظام سياسي يرتكز على مبدأ الفصل بين السلطات".
وهذا واقع يذكّرنا بالدستور السوري لعام 2012 الذي نصّ على أنّ نظام الحكم في سورية جمهوري ديمقراطي (المادة 1 من الباب الأول المخصص للمبادئ الأساسية للدستور)، وأنّ السيادة للشعب (المادة 2 من المبادئ الأساسية للدستور) ويُعتبر مبدأ سيادة القانون أساس الحكم في الدولة (المادة 50) والسلطة القضائية مستقلة (المادة 132). وحين مَنح الدستور رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة نسفت مبدأ فصل السلطات، حيث السلطات الممنوحة لرئيس الجمهورية، تبدّد مبدأ فصل السلطات.
وقد أخذت مسألة استقلالية القضاء خلال الخمسين عاماً الماضية اهتماماً كبيراً في الدول الديمقراطية غير العريقة تمييزاً لها عن الديمقراطية العريقة التي تمتلك مؤسسات وتقاليد ديمقراطية ليبرالية تاريخية. وفي هذه الدول ذات الديمقراطيات الناشئة، حدث صراع مرير إلى أن أخذت السلطة القضائية تمارس دوراً فعالاً ساهم في دفع عجلة الديمقراطية في دول مثل إسبانيا والبرتغال واليونان وإيطاليا والهند والبرازيل وغيرها. في الهند مثلاً، لم تكن المحاكم حازمة للغاية قبل العودة إلى الديمقراطية عام 1977، العام الذي انتهت فيه حالة الطوارئ التي أعلنتها أنديرا غاندي عام 1975، وقد أصبحت المحاكم الهندية منذ ذاك التاريخ، وفقاً لكارل بار، السلطة القضائية الأكثر نشاطاً في العالم. وقد ذهبت المحكمة العليا الهندية أبعد من ذلك، إذ أعلنت أنّ سلطة المراجعة القضائية الخاصة بها هي جزء لا يتجزّأ من الدستور، ولا يمكن نزعها ولا حتى عن طريق التعديل الدستوري. وفي كوستاريكا، حدث تطوّر كبير نقل السلطة القضائية من مرحلة السلبية القضائية إلى مرحلة النشاط القضائي.
في الدول العريقة، لا يمكن لرئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء في النظام البرلماني أن يعيّن كل أعضاء المحكمة العليا وحده
في هذه الدول والدول العريقة، لا يمكن لرئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء في النظام البرلماني أن يعيّن كل أعضاء المحكمة العليا وحده، على سبيل المثال لا الحصر، ينتخب ثلثي أعضاء المجلس العالي للقضاء في إيطاليا جميع القضاة العاديون، وينتخب البرلمان الثلث الباقي. وفي الهند، يُعيّن رئيس الدولة (سلطاته محدودة جدّاً ويعتبر منصبه حياديّاً) قضاة المحكمة العليا بعد التشاور، وفي إسبانيا، يُعيّن الملك الذي لا يحكم رئيس المحكمة العليا و12 قاضياً من أصل 20 قاضياً هم أعضاء المحكمة، فيما يرشّح الكونغرس أربعة أعضاء ومجلس الشيوخ أربعة أعضاء، وينتخبهم ثلاثة أخماس أعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ، وفي البرازيل، يعيّن رئيس الجمهورية قضاة المحكمة الاتحادية العليا بعد موافقة الأغلبية المُطلقة من أعضاء مجلس الشيوح الاتحادي على ترشيحه.
وفي الولايات المتحدة، يعيّن رئيس الدولة (لا يزيد حكمه عن ثمانية أعوام) رئيس المحكمة العليا وأعضاءها، ولكن بشرط موافقة أغلبية أعضاء مجلس الشيوخ المئة، وفي فرنسا، يعيّن رئيس الجمهورية ثلث أعضاء المجلس الدستوري، ويعيّن رئيس البرلمان الثلث الآخر، فيما يعيّن مجلس الشيوخ الثلث الأخير. وفي جميع هذه الحالات والحالات الأخرى في الدول المتطوّرة، تخضع المحاكم العليا فقط للدستور، وفي جميع المحاكم العليا، يبقى أعضاؤها، إمّا طيلة حياتهم، أو عندما تبلغ أعمارهم 65 سنة.
الغاية من إنشاء سلطة قضائية أن تكون حكماً ومرجعاً قانونياً للبتّ في الخلافات والإشكالات القانونية المتعلّقة بآليات الحكم المؤسساتي في الدولة، ومن دون تحقيق هذه الغاية، تصبح السلطة القضائية أداة في يد رئيس السلطة التنفيذية.