الرئيسة \  رؤية  \  أدب وسياسة : " يضع الهِناءَ مواضعَ النُّقْب "

أدب وسياسة : " يضع الهِناءَ مواضعَ النُّقْب "

12.06.2019
زهير سالم




مثل تضربه العرب للرجل الحكيم الحاذق الماهر المتقن . الذي إذا ضرب أصاب الحد وطبق المفصل . وتطبيق المفصل له معنيان ؛ حقيقي أن يقع السيف على حز المفصل فيفصل عضوا عن عضو . ومعنى مجازي أن تأتي الكلمة في موضعها إذا كانت جوابا فعلى قدر السؤال ، جوابا صحيحا يقال لصاحبه إذا أصاب وأجاد : طبقّت .
والهناء بكسر الهاء : القطران ، كانت العرب تعالج به جرب الإبل . والنُّقب بضم النون : موضع القرحة من الجرب . ولما كان الهناء يضر المواقع السليمة إذا أصابها فإن البراعة أن يكون الطلاء على قدر القرحة التي يحدثها الجرب .
وأصل المثل شطر من بيت للشاعر دريد بن الصمة يقولهما متغزلا بالخنساء تماضر بنت الشريد أم الشهداء الأربعة وقد كان رآها تطلي إبلا جربى لها فقال :
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... كاليوم هانئَ أينق جرب
متبــذلا تبدو محاســنه .. يضع الهِناء مواضع النُّقب
وكان من أمرهما أنه خطبها فرفضته وهو سيد قومه . وهي أخت أخيها عمرو بن الشريد الذي تقول فيه :
كأنه علم في راسه نار .
وكان دريد بن الصمة والخنساء قد أدركا الإسلام فأسلمت ، وكانت أم الشهداء الأربعة التي قالت في استشهاد أبنائها يوم القادسية : الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم وأرجو أن يجمعني معهم في مستقر رحمته . وكع دريد فلم يسلم وقتل يوم حنين شيخا كبيرا على شركه لحق به أحد المسلمين هاربا فقتله في حكاية تطول قد أعود إليها في موطن لاحق .
ودريد بن الصمة هو الشاعر الفارس من هوازن صاحب الأبيات المشهورة :
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ..فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
وهل أنا إلا من غزية إن غوت .. غويت وإن ترشد غزية أرشد
ومن جميل حكمة دريد قوله يوم حنين وقد حمله معه سيد هوازن استكاثرا ولم يأخذ برأيه " هذا يوم لم أغب عنه ولم أحضره " وهو قول جدير بمثلي وبكثير منكم من الذين لم يسمع لهم في هذه الثورة السورية قول : أن يتمثلوا به . وأن يرددوه فأنا وكثير منكم كنا الحضور الغائبين ، حيث استبد من ادعى ودفع بالأمر والقرار ..
وقد طال حديث الأدب فدعوني أحدثكم حديث السياسة عن قول العرب : تضع الهناء مواضع النقب . وفي القول كما قلت كناية عن الحكمة والسداد والخبر والمهارة والذكاء ..
في فهمنا لمعنى المثل نستحضر قول الله تعالى عن سيدنا إبراهيم (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) سيدنا إبراهيم يحاجج أباه ، ويحاجج قومه ، ويحاجج النمرود بل ويحاجج نفسه وهو يتابع الشمس والقمر والنجوم فيخرج من كل معارك حجاجه منتصرا مؤيدا بالحكمة التي تقضي بأن يبهت الذي كفر ..
ونستحضر سيدنا داود وربنا سبحانه وتعالى يقول فيه : ( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ). الحكمة : الصواب في موضعه ، وفصل الخطاب هو تفصيل الكلام على مقتضى الحال وقدره . بحيث تكون الكلمة جامعة مانعة . مقنعة أو رادعة .
يضع الهناء مواضع النقب ...
يجب أن تبقى معلما لكل من يريد حوار الناس أو جدالهم إما لإقناعهم وهدايتهم وإما لإقامة الحجة عليهم وإحراجهم . فليس من العقل في شيء أن يكون الإنسان يحدث الإنسان عن مخاطر ثقب الأوزون فيجيبه ولكن ثوبك أبيض أو أسود أو أزرق ..ومن يفعل ذلك فإنما يزري بنفسه وبعقله وبفهمه ، ومن حق الناس أن يعرضوا عن مثله امتثالا لقول الله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ). لأن الإعراض عن مثل هذا الذي لا يرتقي إلى درجة أن يفهم ما يقال ، ثم قول ما يفيد وينفع على طريقة وضع الهناء مواضع النقب هو الحق الذي لا ينفع غيره ، فمثل هذا ليس مؤهلا لأن يُسمع ولا يُسمع منه ..
وبعض الناس من أصحاب الخبث والكيد يظنونها براعة منهم أنهم كلما سمعوا كلاما في أمر جد حرفوه كالذين (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) وردوه على طريقة من كانوا يدخلون على رسول الله فيقولون : السام عليكم . أو راعنا من الرعونة فهؤلاء الخيار فيهم ما اختاروه لأنفسهم من مكانة السفلة وسفلتهم .
وإنما وضع الهناء موضع النقب هو منهج الداعين إلى الحق والباحثين عنه . ويبقى للقاصرين الذين يقولون قبل الفهم وقبل العلم أنهم يشهدون على أنفسهم وعلى عقولهم وعلى فهموهم . وكم أكد سيدنا عمر على سيدنا أبي موسى الأشعري في رسالة القضاء : الفهمَ .. الفهمَ فيما تلجلج عليك . أي فيما ترددت في فهمه حتى نفهمه قبل أن تقضي فيه .
أما أولئك الذين قال الله فيهم (سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) من أهل الكذب والإفك والافتراء فعلاجهم أن لا يكون في المسلمين والمؤمنين (سَمَّاعُونَ لَهُمْ) (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
 
7 / شوال / 1440
11/ 6 / 2019
___________
*مدير مركز الشرق العربي