الرئيسة \
تقارير \ أحزاب بلا وطن.. عن دور القوى السياسية السورية في تغييب الهوية الوطنية
أحزاب بلا وطن.. عن دور القوى السياسية السورية في تغييب الهوية الوطنية
30.06.2025
باسل المحمد
أحزاب بلا وطن.. عن دور القوى السياسية السورية في تغييب الهوية الوطنية
باسل المحمد
سوريا تي في
الاحد 29/6/2025
منذ لحظة الاستقلال وحتى سقوط النظام السوري في ديسمبر 2024، عانت البلاد من غياب هوية وطنية جامعة تُشكّل الإطار الناظم لانتماء السوريين، وتحفظ توازنهم داخل دولة متعددة الانتماءات الدينية والقومية والثقافية. هذا الغياب لم يكن صدفة، بل كان نتاجًا مباشرًا لممارسات القوى السياسية الكبرى التي سيطرت على المشهد السوري لعقود، من الحزب الشيوعي إلى الإخوان المسلمين، مرورًا بالحزب السوري القومي الاجتماعي، وصولًا إلى حزب البعث العربي الاشتراكي.
ورغم اختلاف أيديولوجياتها العقائدية والفكرية، كانت خطابات وسياسات تلك الأحزاب تتفق ضمنيًا ـ عمداً أو في سبيل مصلحة الحزب ـ على تجاوز الوطنية السورية، واستبدالها بانتماءات أممية أو دينية أو قومية كبرى، جعلت "سوريا الوطن" مشروعًا ثانويًا لا يحظى بالأولوية.
في هذا السياق تؤكد الباحثة خلود الزغير في كتابها "سوريا: الدولة والهوية" الصادر عن المركز العربي للأبحاث أن النخب السياسية السورية، منذ لحظة الاستقلال لم تتعامل مع الكيان السوري باعتباره دولة وطنية نهائية، بل نظرت إليه كمرحلة مؤقتة في طريق مشروع أوسع، فقد اعتبرت معظم الأحزاب الكبرى، من الشيوعيين إلى الإسلاميين، ومن القوميين السوريين إلى البعثيين، أن سوريا ليست غاية بحد ذاتها، بل محطة نحو الأممية أو الخلافة الإسلامية أو سوريا الكبرى أو الوحدة العربية.
ونتيجة لذلك ـ تضيف الزغيرـ لم يُطرح مشروع حقيقي لبناء هوية وطنية سورية جامعة، بل ظل الخطاب السياسي أسير التنافس بين هويات عابرة للحدود وهوية وطنية هشة، لم تجد من يتبناها أو يدافع عنها بشكل فعلي.
في هذه المقالة نسلّط الضوء على الكيفية التي أسهمت بها هذه الأحزاب في تآكل الإحساس الوطني، عبر فرض أطر أيديولوجية ضيّقة، وتحويل الوطن من جامع سياسي إلى حقل للصراع العقائدي.
لم يقدم الحزب الشيوعي السوري الذي أسس عام 1944 بقيادة خالد بكداش، خطاباً وطنياً متجذراً بقدر ما قدّم امتداداً محلياً للماركسية اللينينية. إذ ركّز على قضايا الطبقة العاملة والأقليات، ورفع شعارات التضامن الأممي، لكنّه لم يؤسس مشروعاً يعترف بالتعدد السوري على أساس وطني. كان الانتماء الطبقي عنده بديلاً عن الانتماء للوطن، والصراع الاجتماعي بديلاً عن التفاهم السياسي.
وفي انتخابات 1954 مثل بكداش الحزب في البرلمان السوري كأول نائب شيوعي عربي، لكن لم يُحسن تحويل دعم العمال والفلاحين إلى دعم هوية وطنية جامعة، بل وظفها لتوطيد مشروع ماركسي بعناوين أممية وطبقية، فتخلى كثير من الشيوعيين عن انتمائهم إلى سوريا كقضية أساسية، مقابل تأكيد انتمائهم إلى "أمة العمال العالمية".
أما جماعة الإخوان المسلمون التي أسست عام 1942 بقيادة الشيخ مصطفى السباعي، فقد ارتكز خطابهم على الأمة الإسلامية كمظلة كبرى، وتحوّل الدين إلى هوية سياسية تتجاوز حدود الدولة. ولم ينظروا إلى الوطن السوري باعتباره كياناً نهائياً، بل أرضاً يمكن أن تُخضع لسلطة "الخلافة" أو "الشريعة"، وحتى حين دخلوا المشهد السياسي في الانتخابات النيابية (1947) ظل خطابهم يفتقر إلى مشروع وطني حقيقي يعترف بالتنوع ويؤمن بالتعددية.
بدوره بدا الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسس عام 1932 بقيادة أنطون سعادة أكثر تجذراً من حيث رفض الطائفية والانغلاق الديني، لكنه قدّم بديلاً لا يقل إقصائية: "سوريا الكبرى" المشروع الذي يتجاوز حدود سوريا الحالية (تمتد حدوده من بلاد الشام والهلال الخصيب إلى قبرص) ويلغي فكرة الوطن السوري كدولة قائمة بذاتها، بل جعلها مجرد "إقليم" في أمة أكبر، وهذا ما بدا في بيان تأسيسه الذي أكد أن "غاية الحزب السوري القومي بعث نهضة سورية قومية تعيد إلى الأمة السورية [سوراقيا أو منطقة الهلال الخصيب] حيويتها وقوتها، وتنظيم حركة تؤدي إلى استقلال الأمة السورية استقلالاً تاماً". ويبدو واضحاً في هذا الطرح، أن الهوية الوطنية السورية تذوب في هوية جغرافية ثقافية موسّعة، لا مكان فيها لمواطَنة فعلية ترتكز على الانتماء إلى الدولة الحديثة.
تشير كثير من المراجع التاريخية السورية إلى أن هذه الأحزاب لم تتصارع على سوريا، بل تقاسمت تفتيتها، إذ اعتبر كلٌ منها الوطن فرعاً لمشروعه الأكبر، فأُقصيت الهويات الثقافية، وتلاشت الخصوصيات المحلية، واحتُقرت فكرة التنوع، وغابت سوريا باعتبارها وطناً قابلاً للحياة والتعايش.
أما حزب البعث العربي الاشتراكي، فحمل مشروع "الوحدة العربية" وربط الهوية السورية بالعروبة الاشتراكية، ولم يعترف البعث بالهوية السورية كإطار مستقل، بل جعل سوريا مجرد "قطر" في خريطة كبيرة تمتد من المحيط إلى الخليج، لكنه ما لبث أن انقلب على شعاراته، خاصة بعد انقلاب 1963 وصعود حافظ الأسد، حيث أصبح الحزب منذ ذلك الحين أداة في يد النظام، وصارت الهوية الوطنية مرتبطة بولاءٍ شخصي للزعيم، تُلقَّن في المدارس وتُغنّى في الإذاعات، وابتداء من عام 1970 تعمق هذا التغول لخدمة أبدية السلطة، وتم إحياء الطائفيات والولاءات العشائرية بشكل غير معلن، لكن ممنهج بما يضمن إضعاف أي مشروع وطني جامع.
تشير كثير من المراجع التاريخية السورية إلى أن هذه الأحزاب لم تتصارع على سوريا، بل تقاسمت تفتيتها، إذ اعتبر كلٌ منها الوطن فرعاً لمشروعه الأكبر، فأُقصيت الهويات الثقافية، وتلاشت الخصوصيات المحلية، واحتُقرت فكرة التنوع، وغابت سوريا باعتبارها وطناً قابلاً للحياة والتعايش.
وبعد انطلاق الثورة السورية عام 2011، حين اهتزت بنية الدولة ظهر العجز الوطني في أوضح تجلياته، فلم تجد المكونات السورية عقداً جامعاً، ولم تجد الأحزاب خطاباً وطنياً مشتركاً، فتصدّرت المشهد السوري هويات ما قبل الدولة: الطائفة، العرق، العشيرة، وكل منها ينظر بعين الريبة إلى الآخر، وكان ذلك نتيجة طبيعية لتراكمات ستين عاماً من التهميش والتسييس والاحتكار.
لكن مع ذلك لا تزال الفرصة قائمة اليوم بعد سقوط النظام، إذ لا سبيل لبناء سوريا جديدة من دون أن تقوم الأحزاب السياسية الموجودة حالياً على الساحة السورية أو التي ستتشكل في المرحلة القادمة، بمراجعة شاملة تبدأ من سؤال جوهري: هل نحن أحزاب أيديولوجيا تبحث عن جمهور؟ أم أحزاب وطن تبحث عن دولة؟-
ولأن التجربة السورية أثبتت أن غياب الهوية الوطنية هو البوابة إلى الانهيار، فإن المطلوب اليوم ليس فقط خطاباً سياسياً جديداً، بل إطاراً قانونياً يُلزم الأحزاب بحدود واضحة، ويعيد ترتيب علاقتها بالوطن.
ولذلك فإن الخطوة الأولى والمفصلية التي لا يمكن تجاوزها، هي صياغة قانون جديد للأحزاب، لا يكتفي بتنظيم شكل العمل السياسي، بل يضع الوطنية في جوهره. نريد قانونًا يُلزم الأحزاب بأن تعترف بالهوية الوطنية السورية كأولوية غير قابلة للتفاوض، ويمنع التموضع في مشاريع قومية أو دينية أو أيديولوجية تتجاوز حدود الدولة السورية ومصلحة شعبها.
قانون يفرض على كل حزب أن تكون رؤيته للهوية السورية نابعة من واقع البلاد، ومن تنوّعها، من آلامها وآمالها، لا من تصوّرات أو خريطة ترسمها مراكز خارجية أو تراث عقائدي مؤدلج، نريد قانوناً لا يحظر التنوع الفكري، بل يضبطه بضابط المواطنة، ويمنع استخدام الدين أو العرق أو الجغرافيا كأداة تعبئة سياسية.
قال الماغوط ذات مرة: "الوطن لا يخسر أبداً، بل نحن الخاسرون"، دعونا لا نخسر هذه الفرصة التاريخية هذه المرة بعد أن خسرناها بالفعل سابقاً، وعليه نؤكد أن بناء هوية وطنية سورية جامعة لم يعد مجرد ترف فكري في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ سوريا، بل أصبح شرطاً أساسياً لبقاء الدولة والمجتمع معاً، والاختيار اليوم أمام الأحزاب والقوى السياسية السورية على اختلاف توجهاتها وأحجامها: هل تستحق أن تكون "أحزاب وطن" فعلاً؟ أم تظل مجرد "أحزاب بلا وطن"؟