الرئيسة \  تقارير  \  30 عاماً مرّت والاتحاد السوفياتي ما زال حياً

30 عاماً مرّت والاتحاد السوفياتي ما زال حياً

05.01.2022
ليونيد بيرشيدسكي


الشرق الاوسط
الثلاثاء 4/1/2022
انتهى الاتحاد السوفياتي رسمياً قبل 30 عاماً، تحديداً في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991، مع إنزال العَلم السوفياتي من سطح قصر مجلس الشيوخ في الكرملين وتسليم الرئيس السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف، الزرّ النووي لأول رئيس روسي، بوريس يلتسين. لكنّ الاتحاد السوفياتي لم يختفِ بالفعل وبات جثّة غير مدفونة مثل جثة مؤسسها فلاديمير لينين التي لا تزال قيد العرض من الساعة العاشرة صباحاً حتى الواحدة ظهراً في ضريح من الغرانيت في الميدان الأحمر. لا تزال رائحة جثة الاتحاد السوفياتي الكريهة باقية في الكثير من أنحاء العالم، ليس فقط في روسيا بزعامة خليفتها الروحي فلاديمير بوتين – وإن جرى نفي ذلك.
يجب أن أدرك أن طفولتي وبلوغي في العهد السوفياتي هما ما شكّلا وجداني الحالي. وفي عام 2021 يجب أن أعترف بأنني ما زلت من نواحٍ كثيرة جزءاً من “مجتمع تاريخي جديد هو الشعب السوفياتي”، والذي يوحي به اسمي، ليونيد بريجنيف، الذي أفتخر به، وتاريخ ميلادي 1971.
في فيلم وثائقي دعائي صدر حديثاً يهدف إلى تقديم وجهة النظر الرسمية لتاريخ روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي، قال بوتين إن تفكك الاتحاد السوفياتي كان “تفككاً لروسيا التاريخية تحت اسم الاتحاد السوفياتي”. وشأن الكثير من غزوات بوتين التاريخية، يتأرجح البيان ما بين المحرج والمشكوك فيه. فقد تذبذبت حدود “روسيا التاريخية” عبر العصور عندما استولت على الأراضي وتنازلت عنها في حروب وصفقات مستمرة. وليس من الواضح في أي نقطة يمكن اعتبار الإمبراطورية، أو حتى جوهر الدولة القومية، كاملة أو متوازنة على النحو الأمثل. فمع تفكك الاتحاد السوفياتي، خسرت روسيا بعض الأراضي التي حصلت عليها في القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، لكنها احتفظت بالكثير من عمليات الاستحواذ الحديثة: أجزاء من “كاريليا” التي تنازلت عنها فنلندا في عام 1940 في روسيا الشرقية السابقة، وجزر “سخالين” و”الكوريل” التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية، وجمهورية طوفا الشاسعة في جنوب سيبيريا التي انضمت طوعاً في عام 1944.
غالباً ما ينظر بوتين وخصومه الغربيون إلى الاتحاد السوفياتي من منظور الأراضي والمشاحنات الجيوسياسية وبناء الإمبراطورية والأحقاد التاريخية الزائفة. إن مجال تشويه الواقع قوي للغاية لدرجة أن بعض كبار المسؤولين الأميركيين يواصلون الإشارة إلى روسيا باسم “الاتحاد السوفياتي” أو “الجيش الأحمر”، كما لو أن الحرب الباردة الأولى لم تنتهِ بعد، وتحولت بسلاسة إلى الحرب الثانية مع نفس اللاعبين القدامى. وبهذا المعنى الضيق، لا يزال الاتحاد السوفياتي، بالطبع، موجوداً - سواء في رغبة بوتين في إعادة توحيد روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا (على الرغم من أنها ليست بالتأكيد الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، التي توفر معظم العمالة المهاجرة لروسيا اليوم) أو في الغرب، وردود فعل المسؤولين السريعة على تحركات بوتين تسير في هذا الاتجاه.
ورغم ذلك، فهذه ليست القصة الكاملة، بل إنني أزعم أنها القصة الخاطئة، لأن مفهوم بوتين “التاريخي لروسيا” يرتكز على أسس أكثر هشاشة مما فعله الاتحاد السوفياتي في الوقت الذي نفّذ فيه أي شيء تقريباً فقط من أجل البقاء. كان بريجنيف على حق - لقد كنا نوعاً جديداً من الناس.
كان الاتحاد السوفياتي، في بعض الأحيان، شرهاً إقليمياً وفخوراً بالتراث الإمبراطوري الروسي - من نواحٍ كثيرة مثل الولايات المتحدة - أمة مبنية على فكرة بمعناها اليساري. ما حدث لهذه الفكرة على يد ثلاثة أجيال من قادة الحزب الشيوعي الذين كانوا يملكون القدرة على تطبيقها، ويقودون بلداً شاسعاً، هو السبب في أن دول ما بعد الاتحاد السوفياتي - حتى الطفل اللصيق، إستونيا - لا تزال توصف بشكل روتيني بأنها ما بعد العهد السوفياتي.
لا تزال التجربة المشتركة للتعمير تحت سقوف الصناديق الخرسانية القبيحة قائمة، ورياض الأطفال والمدارس بُنيت كأنها سجون، وكذلك المصانع ومعاهد الأبحاث، حيث اعتاد آباؤنا العمل مقابل أجر زهيد. لا تزال تلك الأفلام الآيديولوجية التي لطالما شاهدناها تُعرض بشكل متواصل. فنحن ما بعد السوفيات لا يزال بإمكاننا رؤية كل شيء بعضنا في عيون بعض. هذا هو الشيء الغريب، فالكثيرون منا يتذكر كل ذلك وسط ضباب ورديّ. فقد كان كل شيء لطيفاً جداً، في الواقع، أو على الأقل هكذا سمعت من بعض الأقران والشباب على حدٍّ سواء. فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز “ليفادا” عام 2020، أحد منظِّمي استطلاعات الرأي القلائل الجادين في روسيا، أن 75% من الروس يعدّون الفترة السوفياتية هي الأفضل في تاريخ الأمة؛ وأشار 1% فقط إلى الحقبة السوفياتية في المقام الأول على أنها فترة ركود وقمع وستار حديدي.
ومع ذلك، كانت هذه التجارب المنسيّة ظاهرياً هي الأكثر تكويناً لشخصية ما بعد الاتحاد السوفياتي. فقبل بضع سنوات، أثبت الخبير الاقتصادي السلوكي دان آريلي، من خلال العمل مع أشخاص من ألمانيا الشرقية والغربية السابقة أن الشرقيين كانوا أكثر عُرضة للغش في التجربة. في الموجة الأخيرة من “استطلاع القيم العالمية”، شارك 11.4% فقط من الروس الرأيَ القائلَ بأن “غالبية الناس يمكن الوثوق بهم”، مقارنةً بـ37% من الأميركيين و46.7% من الكنديين. ما كان يُقصد به، منذ زمن طويل أن يكون مجتمعاً عادلاً قد أنتج “مجتمعاً تاريخياً جديداً” من الناس المقتنعين بأن الحياة غير عادلة في الأساس، ولا يمكنك الاعتماد إلا على نفسك، وأن الجميع - لا سيما من هم في مناصب السلطة – هدفهم هو النيل منك.
هناك الكثير من الأسباب الموضوعية لعدم نمو اقتصادات ما بعد الاتحاد السوفياتي بنفس قدر الاقتصادات الغربية، على الرغم من أنها بدأت بقاعدة منخفضة - ولم تتم مقارنتها حتى بالشروط الأكثر سخاءً. لكنّ عقلية ما بعد الاتحاد السوفياتي لم تستطع إلا أن تكافئ عدداً قليلاً نسبياً من الفائزين على حساب أي شخص آخر.
ستجعلنا دعاية نظام بوتين نعتقد أن السنوات الصعبة التي مرت بها فترة ما بعد الانفصال كانت مجانية للجميع وهي التي جعلتنا هكذا، في تصعيدٍ مؤقتٍ لغريزة البقاء. الآن بعد أن نهضت روسيا ووقفت على قدميها، يجب أن نعود إلى طبيعتنا، حتى وإن عانينا من بعض الجروح. من وجهة نظر النظام، قد يكون هذا صحيحاً.
يبدو أن غالبية السكان الروس الحاليين قد استقروا مرة أخرى على الروتين السوفياتي المعتاد في الطاعة والتذمر وفي تغميض إحدى العينين لترى الأخرى الجانب المشرق فقط. في معظم بلدان ما بعد الاتحاد السوفياتي الأخرى، استمر هذا الروتين ببساطة بدون انقطاع. فهو ليس شكلاً جديداً من أشكال القمع، على الرغم من التقدم التكنولوجي. ولا يزال هذا هو الحذر والرقابة الذاتية على النمط السوفياتي القديم: راقب خطوتك وابحث عن نفسك المنبوذة والمحرومة من أي حقوق والتي يرون أنها لا تستحق الرحمة، أو المنزوعة منها ممتلكاتها أو المقطوعة عنها مصادر الدخل.
أعتقد الآن أن الكثيرين منّا لم يصدّقوا أبداً أن أي شيء يمكن أن يتغير، خصوصاً للأفضل. هذا هو السبب في أن محاولاتنا الأخيرة للاحتجاج منذ التمرد اليائس في 1990 و1991، كانت فاترة للغاية، وغير حاسمة في روسيا وبيلاروسيا، وغير فعّالة بشكل مخيب للآمال على المدى المتوسط في أماكن أخرى مثل أوكرانيا، وجورجيا، وقيرغيزستان، حيث تم القضاء على الحكومات الفاشلة ليحل محلها في أحسن الأحوال حكومات أفضل قليلاً.
* بالاتفاق مع “بلومبرغ”