الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هل هناك حقاً معارضة في الداخل السوري؟

هل هناك حقاً معارضة في الداخل السوري؟

29.09.2018
بكر صدقي


القدس العربي
27/9/2018
أثارت تصريحات أدلى بها الفنان السوري المعروف يوسف عبدلكي، لقناة فرانس 24 العربية، جدلاً في الأوساط المعارضة.
عبدلكي فنان تشكيلي بارز في مجالات الرسم والنحت والكاريكاتير، له أسلوبه الخاص، ودائم التطوير لموضوعاته. وهو، إلى ذلك، معارض سياسي معروف لنظام الأسد، ينتمي إلى حزب يساري معارض، وقضى سنوات من عمره في المعتقل، وأخرى في المنفى، قبل أن يعود، بصورة نهائية، إلى سوريا في مطلع عهد بشار الكيماوي، ليتابع من الداخل نشاطه الفني والسياسي.
في الحوار الذي أجرته معه قناة فرانس 24، طغى الجانب السياسي على الجانب الفني في نشاطه، وهو أمر مفهوم بالنظر إلى الوضع في سوريا. بل إن نشاطه الفني أُخضِعَ، في الحوار كما في الجدل اللاحق حوله، لمعايير سياسية، فاعتبر البعض أن مجرد خروجه من سوريا بمناسبة معرض فني لأعماله في برلين، هو نوع من الترويج لتأهيل النظام، أو على الأقل يمكن تجييره لهذه الغاية.
لن أدخل في محاسبة النوايا أو إمكانيات التجيير، بل سأحاول مقاربة بعض النقاط في حديث عبدلكي، وأولها كلامه عن "وجود معارضة واسعة للنظام في الداخل" كما قال.
والمقصود بالداخل، هنا، هو مناطق سيطرة النظام، لا المناطق التي ما زالت خارج سيطرته. فهل صحيح أن هناك معارضة "واسعة" هناك، وكيف تعبر عن نفسها، وما النشاط السياسي الذي تمارسه؟
نحن نعرف أن هناك معارضين معروفين بتاريخهم المعارض، آثروا البقاء في الداخل. لكن عددهم محدود جداً قد لا يتجاوز بعض عشرات، ولا يمارسون نشاطاً سياسياً معارضاً، بل أرغمتهم الظروف وخيارهم الشخصي على التزام الصمت والكمون. فإذا حدث وظهروا على وسائل الإعلام المرئية أو المقروءة، عبروا، عموماً، عن خط سياسي ناقد للنظام ومعارض بشدة لما يسمونه "معارضة الخارج". فلا يمكن اعتباره "الخط الثالث" الذي يقوم، نظرياً، على "الوقوف على مسافة واحدة" من طرفي الصراع. فهو أشد عداءً لـ"معارضة الخارج" من تحفظاته على النظام. وتقوم "فلسفة" هذا الخط أساساً على أن "الوطن" قبل "التغيير" في سلم الأولويات. ذلك أنه إذا ضاع الوطن لا يبقى معنى للتغيير. لكن الغريب في الأمر أنهم يحمِّلون المعارضة "الخارجية" مسؤولية هذا الضياع أو الدمار، بأكثر مما يحملون النظام، هذا إذا حملوه شيئاً من المسؤولية أصلاً. ليس هذا ما قاله يوسف عبدلكي، بل هو فحوى الخطاب العام لـ"معارضة الداخل" كما تسمي نفسها، هذه هي المعارضة التي تحدث عبدلكي عن وجودها.
أما المعارضة الاجتماعية، فلا نعرف عنها شيئاً، وأستبعد أن يعرف عنها عبدلكي الذي يعيش في الداخل شيئاً، ما لم تكن معارضة سرية لا تعبر عن نفسها بالقول أو بالفعل. هي إذن كحال قسم كبير من المجتمع السوري في سنوات وعقود ما قبل الثورة، لا يحب النظام لكنه غير قادر على فعل شيء لتغييره. بل أكثر من ذلك: يتظاهر بالولاء درءًا للعواقب، وقد يتمادى بعضه في إظهار الولاء من خلال استهداف أي شخص أو كيان معارض، بالقول أو بالفعل.
الواقع أن الزمن قد تجاوز هذا التقسيم التقليدي بين معارضة الداخل ومعارضة الخارج، وذلك بعد دخول "هيئة التنسيق" ـ أبرز أطر معارضة الداخل ـ في بنية الهيئة العليا للمفاوضات التي جبِّت أيضاً "الائتلاف المعارض" الذي كان، إلى زمن معين يمثل حصرياً معارضة الخارج. الغريب في الأمر أن هذا الإطار الموحد الذي ضم، إلى الهيئة والائتلاف، منصتي موسكو والقاهرة ـ ممثلتي معارضة النظام لنفسه ـ، لم يتجاوز الإشكاليات القديمة التي كانت تقسم المعارضة بين الداخل والخارج، فقد ظل الجدل البيزنطي بين الطرفين حول خلافات تجاوزها الزمن السوري، كالسلمية والتسلح، والعلمانية والأسلمة، والتدخل الخارجي والارتهان.. إلى آخر هذه المناقشات التي من المفترض أنها باتت من الماضي.
الخلاصة هي أن كلاً من معارضتي الداخل والخارج قد تغيرتا مع تغير الشروط، وفقدتا أي حيثية اجتماعية يمكن المراهنة عليها، وتهمشت المعارضة ككل لمصلحة صراع إقليمي ـ دولي يفيض خارج الحدود السورية ذاتها، لأنه صراع هيمنة على الإقليم ككل بواسطة الصراع السوري وغيره من الصراعات المترابطة.
أما الحديث عن معارضة مستقبلية في الداخل، من خلال التسليم باستمرار النظام، فهو ضرب من التنجيم الذي لا يقوم على أي أسس يمكن الاستدلال بها. أعني أن هناك بعض المعارضين (بصرف النظر عن داخليتهم أو خارجيتهم) قد استسلموا لفكرة أن نظام الأسد باق، ويجب البحث عن وسائل جديدة لمعارضته بعد انتهاء الحرب، ويقترح بعضهم أن يكون ذلك من الداخل، سواء بالموجودين هناك حالياً أو بمن سينضم إليهم من "العائدين". تنطوي هذه الدعوى على فكرة أن النظام سيقبل، بعد انتهاء الحرب، بوجود معارضة في الداخل. وربما يستند مروجو هذه الفكرة على أن المسار السياسي الذي يقوده ديمستورا (دستور وانتخابات) سوف يؤدي إلى تغيير نسبي في النظام مع بقائه في الحكم وفقاً للمشروع الروسي، وفي أحسن الاحتمالات وفقاً لقرار مجلس الأمن المعني بالتسوية السياسية.
والحال أن النظام قد أثبت، خلال السنوات السابقة، أنه غير قابل للإصلاح أو للدخول في تسوية سياسية قابلة للحياة، ناهيكم عن "تقاسم السلطة" على حد تعبير عبدلكي في الحوار نفسه. وتشير بعض إجراءاته، كترميم تماثيل حافظ الأسد التي كان قد دمرها الثوار في السنوات السابقة، إلى أنه لا يملك أي تصور عن سوريا لا ـ أسدية. وهو فوق ذلك قد فقد أي استقلال عن الروس والإيرانيين، وبات عاجزاً تماماً حتى عن ضبط ميليشياته. فإذا كان المقصود هو أن الروس قادرون على إرغامه على الدخول في تسوية سياسية مع المعارضة، فلذلك معنى واحد هو إنشاء سلطة "مختلطة" تابعة للاحتلال الروسي، ولا نعرف ما إذا كان هذا أقصى ما تحلم به المعارضة ككل، بداخلييها وخارجييها.