الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من مجزرة السويداء إلى مقبرة أطمة

من مجزرة السويداء إلى مقبرة أطمة

29.07.2018
وائل عصام


القدس العربي
السبت 28/7/2018
بعد تحرير حلب الشرقية على يد الفصيل الإسلامي لواء التوحيد في سنوات الثورة الأولى، توافد لها عدد من ناشطي الحراك المدني من مناطق علوية ومسيحية ودرزية، حيث لم تشاركهم قراهم ومدنهم حماسهم للثورة السورية، فالتجأوا لأحياء المدن والقرى السنية المحررة في حلب مثل، بستان القصر والباشا والصاخور والسكري، وغيرها من مراكز أصبحت معاقل للفعاليات المعارضة لسنوات مقبلة.
وخلال إحدى المظاهرات المعارضة التي قصفها النظام، تعرض ناشط درزي لإصابة بليغة، استدعت نقله باتجاه الحدود التركية للعلاج، ولكنه توفي قبل أن يصل متأثرا بجراحه، وهنا بدأت قصة دفنه، إذ توجهت شقيقته بجثمانه ومعها اثنين من الناشطين العلويين لريف أدلب لدفنه، وبالطبع فإن أولى الوجهات كانت القرى الدرزية هناك، وكانت المعضلة الأولى التي واجهها جسد الشهيد الثائر الملفوف بعلم الثورة، أن تلك القرية الدرزية، التي لم تكن متحمسة كثيرا للثورة آنذاك، رفضت دفنه، بل إن شقيقته تعرضت لتهديدات واضطرت للمغادرة، فكانت الوجهة أحد معاقل فصائل المعارضة على الحدود السورية التركية، بلدة أطمة، حيث مقبرة أطمة، وهناك رفض الشيخ مسؤول المقبرة أيضا دفنه، بحجة انه "ليس مسلما"، ولم تفلح كل محاولات الناشطين لدفن زميلهم قرب المقبرة، فاضطروا في النهاية لدفنه في منطقه جبلية نائية بعد أن حل الظلام، لم تكن أطمه خاضعة آنذاك لفصيل "النصرة" أو تنظيم "الدولة" الاصوليين، بل لفصائل الجيش الحر، ومع ذلك لم يتمكن جثمان الناشط الدرزي أن يجد مثوى لائقا بتضحياته من أجل الثورة السورية.
لهذه القصة تفاصيل كثيرة أشد إيلاما، لا يتسع المجال لذكرها في هذه العجالة، لكنها تعكس معاناة ثوار شجعان من الأقليات، اتخذوا مواقف معاندة لميول طوائفهم وتمردوا على جماعاتهم، لكنهم خسروا على "الميلتين"، كما أنها تذكرنا بأن الشرخ الأهلي و"الدمامل" المذهبية في سوريا والمشرق عموما، أكثر تجذرا وتأثيرا من محاولة تجاهلها أو تجميلها، أو التخلص من تبعاتها باختصارها بـ"داعش"، التي باتت اسما يستخدم شماعة جاهزة لحمل أوزار ثقيلة، وإخفاء أمراض حساسية طائفية كانت حاضرة ومتأهبة منذ الأيام الأولى للثورة السورية، قبل أن تطفو على السطح لاحقا، فقبل التنظيمات الجهادية كالنصرة والدولة، كانت الفصائل المعارضة المحلية في الجيش الحر، قد مارست أعمال عنف طائفي متبادلة مع الموالين للنظام من المسيحيين والعلويين والشيعة، في مناطق مختلطة طائفيا كحمص وقرى ريف حماة وجديدة عرطوز والمعضمية في ريف دمشق، ونبل والزهراء في ريف حلب وغيرها، في نزاع تواصل خلال الثورة دفعت فيه قرى الأقليات ثمنا كبيرا من ابنائها، ودفعت فيه مناطق العرب السنة ثمنا أكبر، نتيجة تفوق القوة العسكرية للنظام، الذي اعتمد بشكل كبير على تكوين أقلوي في مفاصله.
ولعل تأييد مناطق الأقليات وقراها للنظام وانضمام ابنائها للميليشيات الموالية منذ أيام الثورة الاولى، جعل أولا النظام مرتاحا من عبء السيطرة على مساحات واسعة في السويداء وحماة واللاذقية، كانت معاقل تأييد للأسد، وتفريغ جهده العسكري لمناطق أخرى، وهو عين ما حصل في العراق، عندما أراحت المناطق الكردية والشيعية القوات الامريكية من عبء السيطرة عليها بعد الاحتلال، بينما تركز الجهد العسكري لقمع المقاومة المسلحة في المناطق السنية حصرا، هذا التماهي جعل الفصل بين الأقليات والنظام أمرا صعبا بالنسبة لفصائل المعارضة التي ينتمي ابناؤها في مجملهم لمجتمعات محافظة ذات ميول إسلامية تقليدية، جعلت حتى اسماء فصائلها في الجيش "الحر" تبدأ من اسماء الصحابة ولا تنتهي باسماء كـ"شباب السنة".
وما يحصل اليوم من تماهي الاقليات مع النظام ظل مطبوعا في ذاكرة هذه المجتمعات المحافظة السنية، منذ أن كانت معقل المعارضة لنظام الأسد في أحداث حماة في الثمانينيات وحادثة مدرسة المدفعية في حلب 1979، فمنفذ العملية إبراهيم اليوسف، قرر حينها أن الضباط السنة ليسوا من النظام وإن كانوا جزءا من المؤسسة، فأخرجهم من القاعة، وأن الضباط العلويين وغيرهم من الاقليات هم عماد النظام فارتكب مجزرته الشهيرة.
وحتى قبل الثورة السورية، فإن النزاع الاهلي كان حاضرا لقرون في سوريا والمشرق، لا يمكن اختصاره حتى بأحداث دمشق الأهلية الدامية 1860 ومعها حلب، فحتى المتتبع لتاريخ العلاقة بين الدروز في السويداء وعشائر البدو في درعا، سيجد نزاعات ومعارك ممتدة لقرون، لعل هجوم تنظيم "الدولة" الاخير هو حلقة جديدة من هذا المسلسل الدامي الطويل الذي نبحث دائما عن شماعات له، جاهزة دائما لـ"التورية"، التورية حاضرة دائما في لغتنا كما ذهنيتنا، وبها تعايش الكثيرون مع قروح التوترات الأهلية في هذا المشرق العربي لقرون، بطريقة "التكاذب المشترك".
*كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"