الرئيسة \  واحة اللقاء  \  محادثات فيينا… انعطافة في الاتجاه الخاطئ

محادثات فيينا… انعطافة في الاتجاه الخاطئ

28.11.2015
باسل أبو حمدة



القدس العربي
الخميس 26/11/2015
أسوة بسابقاتها، شكلت محادثات العاصمة النمساوية حول الأزمة السورية، فشلا ذريعا آخر في إمكانية حل الصراعات على السلطة والنفوذ، التي أشعلت منطقة المشرق العربي خلال السنوات الخمس الماضية، باستنادها إلى واقعية واهمة في التعامل مع الحقائق من منظور أحادي الاتجاه يتعزز، هذه المرة، بالتسليم بحضور روسي – إيراني وازن في محادثات فيينا، جاء أثر تلكؤ واشنطن في محاولة إضعاف ذلك الحضور المتشابك مع أجندة عقيمة ترمي إلى إعادة تشكيل مصير هذا البلد العربي والمنطقة انطلاقا من نوايا مضمرة.
مؤتمر فيينا بنسخته الثالثة ربما يشكل أهم حدث منذ القمة الأخرى التي استضافتها العاصمة النمساوية أيضا، والتي وضعت حدا للنزوع النووي الايراني في يوليو الماضي، إذ يظن الكثيرون أن المفاوضات بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وألمانيا والنظام في طهران، ذهبت إلى ما هو أبعد من الخلاف النووي، وأنه بدون ذلك الاجتماع، ما كان للاجتماع الأخير أن يرى النور، ولا أي شيء مما رأيناه من تطورات في هذه الحلقة المفرغة من القتال الوحشي الطاغي في المشهد السياسي السوري.
هذا المشهد المكرس يظهر، بشكل مريح، وفي الصف الأمامي منه جماعة إرهابية تدعى تنظيم "الدولة الاسلامية في العراق والشام"، العدو المشترك، على الأقل في البلاغة والخطابة، الذي كان من شأنه أن يبرر جدول أعمال انقلب على مخرجات مؤتمر جنيف، وخرج عن قرارات الأمم المتحدة وانضم إليه، إلى جانب نظام الملالي الايراني، المزيد من اللاعبين العرب والدوليين، بما في ذلك مصر. وكذلك الاتحاد الأوروبي، ومرة ​​أخرى، خماسية مجلس الأمن.
لكن إذا نظرنا في خلفية المشهد عينه، سنجد دائما أن هناك صراعا محتدما على السلطة لو لم يكن موجها، لأمكن تعميمه بأي شكل من الأشكال التي يمكن تخيلها، ولكان التهديد الإرهابي قد انحدر إلى المستوى الثاني أو الثالث في جدول أعمال بالغ السوء، يضاف إليه ثقل عدم تبلور تشكيل سياسي سوري معارض وازن، وعدم وجود تحالفات حقيقية وعميقة بين الدول العربية والمناطق المحيطة بها. ولذلك يمكن القول إن التحدي الأكبر المهدور لاجتماع فيينا كان يتمثل في خلق نظام دولي للتعاون في حل الأزمة في جوهرها السياسي قبل فقدان السيطرة تماما. فالمسألة هنا لا تتعلق بتنظيم الدولة، الذي أصبح عنوة لاعبا رئيسيا في أجندات الجميع، بل بمصير سوريا، أو بعبارة أخرى، بتحديد إلى أي مدى يمكن أن يصل تأثير طهران المعزز بعد الاتفاقات مع الغرب، وكذلك تأثير الخصوم والحلفاء، ما يبين أن فيينا تشهد ترسيخ قواعد لعبة الأمم المقبلة في تلك المنطقة.
في هذا المشهد أو عند هذا المستوى منه، يبدو مستقبل بشار الأسد ذا قيمة نسبية، رغم ذلك الحضور المبالغ فيه في هذا النزاع، فبقاء أو إزالة الديكتاتور كانت له قيمة عندما كان يفترض إنجازا في أي من الاتجاهين، اعتمادا على من يمتلك زمام المبادرة، ولذلك كانت واشنطن وشركاؤها الأوروبيون يطالبون برحيل الأسد، بينما يرفض الروس والإيرانيون ذلك. وبالنتيجة، أدى هذا التوتر المعزز بالتدخل العسكري الروسي – الايراني المباشر، وسلسلة الهجمات الارهابية حول العالم وعلى رأسها هجمات باريس إلى اعتراف واشنطن بأن شيئا لن يحدث لرأس النظام السوري، على الأقل خلال فترة انتقالية لا يزال مداها الزمني مجهولا، فضلا عن مآلاتها، على الرغم من كل ما قيل في فيينا حول جداول زمنية لحل الصراع على سوريا.
وكما هو الحال بالنسبة إلى توسيع قائمة المشاركين في اجتماع فيينا حول سوريا، بما في ذلك إيران، بضغط روسي، فإن تراجع الولايات المتحدة عما يجب القيام به مع الأسد يظهر إلى أي درجة انطلت الخدعة الروسية، وإلى أي حد مالت الكفة لصالح الرؤية الاستراتيجية لفلاديمير بوتين، القائمة على اعادة الاعتبار لروسيا بوصفها قطبا عالميا من خلال البوابة السورية.
في هذه المتاهة، تظهر شكوك العرب حول حمى الغمزات المتبادلة بين باراك أوباما وزميله في الكرملين، للمضي قدما في تنفيذ الهجوم على سوريا، في ظل حوار متنام بين الطرفين أثمر حتى الآن دعوة إلى انتخابات جديدة في سوريا. لكن من غير المرجح أن توحي هذه الفكرة بحالة من التخطيط العسكري المشترك تتعدى تنسيق الضربات الجوية في السماء السورية، فسرعة الأحداث، بدلا من ذلك، تظهر دور واشنطن معطلا وفي غير محله، حين يتحدث مسؤولوها بلهجة تبدو من الماضي عن أن آفاق النفوذ الروسي في المنطقة مبالغ فيها، وأن الولايات المتحدة تقوم بكل ما يلزم لحماية مصالحها ومصالح حلفائها فيها.
في حين يشي الواقع بأنه لا شيء من ذلك يحدث، يبدو أن بوتين، في المقابل، ماض في تعزيز موقفه، ويستعرض تباعا مكاسبه العسكرية التي تعزز المبادرة الروسية في النزاع على سوريا، ولهذا السبب بالذات تتمادى موسكو في تكثيف غاراتها الجوية التي لا تقارن من حيث العدد والتأثير مع عدد وفاعلية ضربات التحالف الستيني، رغم الفارق الزمني الشاسع في ما بينهما. هذه الاختلافات هي التي تغذي الغموض حول الموقع الحقيقي لهذه المجموعة الإرهابية المفترض أنها معادية لإيران بمقدار عدائها للأسد. فإذا كان هناك نوع من الحزم الغامض في مسألة القضاء على عدو عدوي، فإن جميع المشاركين في هذا الكابوس سيجدون أنفسهم متورطين في هذه الحالة.
موسكو تهاجم تنظيم الدولة تحت ذريعة حماية حدودها الجنوبية، ووجود جحافل من الشيشان في صفوف التنظيم الارهابي، من بين أقليات أخرى تناصب الكرملين العداء، ولكنها تسحق كذلك ما تبقى من الجماعات المتمردة، بما فيها تلك التي تتصارع مع "داعش"، للحفاظ على النظام في دمشق وعلى مستقبله المتدهور، ذلك أن روسيا لديها مصالح استراتيجية موضوعية، تسعى للحفاظ عليها، مع أو من دون الأسد في الحكم، والهيكلية العسكرية للكرملين في طرطوس هي واحدة منها، أما مصلحتها الأخرى، فإنها مرتبطة، كما هو معروف، بواقع أن هذا البلد العربي هو مفتاح مرور خطوط الأنابيب الروسية.
كان هذا هو المنطق نفسه الذي تحرك بمقتضاه بوتين للسيطرة على شبه جزيرة القرم خلال الأزمة الأوكرانية.
إيران هي الفائز الآخر في قطار الأشباح هذا، الذي تسعى من خلاله إلى ترسخ هيمنتها الناجزة على جزء غير يسير من المشرق العربي، ولكن حضورها في فيينا يكشف أيضا مدى حدة المعركة الداخلية المشتعلة في كنف نظام الملالي في طهران، فعلى الرغم من أن المرشد الأعلى حذر من مزيد من المحادثات مع الغرب، بعد المحادثات النووية، تجاوز الرئيس حسن روحاني ذلك الخط الأحمر مضيفا ابتسامة راضية أخرى لبوتين وربما لأوباما أيضا، في حين يبدو الشعب السوري الخاسر الأوحد ربما في محادثات فيينا، في ظل سعي القوى الاقليمية والدولية إلى إعادة ترتيب أوراقها والتوازنات في ما بينها في المشرق العربي، مسجلة انعطافة كبيرة في أهداف العملية السياسية الخاصة بالقضية السورية تحت ذريعة ضرورة التنسيق في محاربة الارهاب، الذي لا يمكن محاربته مع دول وأنظمة تغذيه وتعتاش عليه أصلا.
٭ كاتب فلسطيني