الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ما الذي بقي من الدور التركي في سوريا؟

ما الذي بقي من الدور التركي في سوريا؟

10.12.2016
بكر صدقي


القدس العربي
الخميس 8/12/2016 
كان الرئيس رجب طيب أردوغان يخاطب مؤتمراً حول القدس، عقد الأسبوع الماضي في إسطنبول، حين دفعته الحماسة ليقول: "لقد دخلنا سوريا لإنهاء حكم الدكتاتور بشار الأسد، ولا شيء غير ذلك!". "استغرب" الروس هذا التصريح وطالبوا أنقرة بتوضيحات. فما كان من هذه الأخيرة إلا أن تراجعت عن أقوال رئيسها وقالت إن الهدف هو محاربة الإرهاب.
إنه موقف محزن حقاً أن تصل تركيا أردوغان إلى هذا الحد من الإذعان أمام جارها الروسي المتجبر الذي يعمل بكامل قوته التدميرية على إحراق حلب، حتى لو تعلق الأمر بمناوشات كلامية لا تترتب عليها أفعال. ولكن ما الذي جعل أردوغان يتورط في ذلك التصريح الغريب حقاً، كما قال الروس، في الوقت الذي باتت فيه السياسة السورية لتركيا مقتصرة على عملية درع الفرات المحدودة جغرافياً والمحددة أهدافها؟
من المحتمل أن الاجتماع الذي كان يخطب فيه، وموضوعه القدس، جعل العاطفة تتغلب لديه على برودة السياسة ومتطلباتها الواقعية. يجدر بالذكر أن التيار الإسلامي الأم الذي سينبثق منه لاحقاً حزب العدالة والتنمية، قد حافظ، منذ تأسيسه بقيادة نجم الدين أربكان في أواخر الستينات، على مكانة خاصة للقضية الفلسطينية في خطابه، وفي القلب منها مدينة القدس برمزيتها الإسلامية العالية. من غير المستبعد أن أردوغان قد عبر عن مكنونات قلبه بشأن سوريا في البيئة الحماسية التي فرضها هذا الاجتماع، مدغدغاً في الوقت نفسه عواطف ناخبيه الإسلاميين الذين تعاطفوا مع الثورة السورية منذ بداياتها من منطلق مظلومية الشعب السوري "المسلم" الذي يتعرض لاضطهاد من نظام أقلوي.
غير أن للسياسة الواقعية قولا آخر. فثمة تفاهمات بين أنقرة وموسكو، بعضها أعلن وبعضها ظل طي الكتمان، بشأن المسألة السورية، هي ما سمح لتركيا بزج قواتها في عمق الأراضي السورية، للمرة الأولى منذ بداية الثورة، تحت عنوان "درع الفرات". وكان الهدف التركي المعلن من هذه العملية العسكرية هي محاربة داعش وقوات وحدات حماية الشعب الكردية في الجيب الحدودي الممتد من جرابلس إلى إعزاز، لإنشاء "منطقة خالية من خطر إرهاب داعش" ولقطع الطريق أمام إنشاء كيان كردي متصل على طول الحدود السورية ـ التركية. ويتفق معظم المراقبين، من تركيا وخارجها، أن الهدف الثاني هو الدافع الحقيقي للانخراط العسكري التركي المباشر. وفي الواقع وجهت تركيا أكثر ضرباتها، في إطار درع الفرات، إلى القوات الكردية، وليس قوات داعش، بدليل قصفها المتكرر لمنطقة عفرين التي من المفترض أنها تقع خارج منطقة عمليات "درع الفرات".
أغرى التقدم السريع لقوات الجيش الحر المدعومة من تركيا، في المرحلة الأولى من درع الفرات، القيادة التركية بتوسيع منطقة نفوذها عمقاً حتى مدينة الباب المحتلة من داعش. وقد تحدث الرئيس التركي أكثر من مرة عن نيته بالوصول إلى تلك المدينة الاستراتيجية بموقعها، وخاصةً لجهة أهميتها الحيوية لقطع "الكوريدور الكردي" الذي يعمل الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني لإقامته في إطار مشروعه المسمى "فيدرالية روج آفا". لكن الأمريكيين الذين لم يعترضوا على العملية العسكرية التركية في بداياتها، لم يعودوا متحمسين لتوسع تلك العملية جنوباً باتجاه منبج والباب. فهم يدعمون "قوات سوريا الديمقراطية" التي تنافس الأتراك في السيطرة على تلك المنطقة. أما الروس الذين سمحوا لتركيا بدخول جرابلس والمناطق القريبة منها، فمن المحتمل أنهم يراوغون بشأن تقدم العملية التركية جنوباً باتجاه الباب. أي أنهم امتنعوا عن إعلان موقفهم للأتراك وتركوهم يتورطون أكثر من غير أي ضمانات. هذا ما يؤكده قصف طيران النظام موقعا للقوات الخاصة التركية قرب مدينة الباب، وتنصل موسكو من مسؤوليتها عن ذلك القصف، على رغم توقيته المريب الذي حدث في الذكرى السنوية لإسقاط المقاتلات التركية لطائرة السوخوي الروسية.
وقد يكون الفخ الثاني الذي وقع فيه الأتراك، دائماً قرب مدينة الباب، من تدبير غير مباشر للروس أو الأمريكيين، وأعني به أسر داعش لجنديين تركيين ما زال مصيرهما مجهولاً. فقد تحدثت تقارير إعلامية تركية عن انكشاف ظهر القوات الخاصة التركية في تلك المنطقة، بعدما هرب كل مقاتلي الجيش الحر وتركوا الأتراك لمصيرهم. في كل من الحادثتين، قصف طيران النظام وأسر الجنديين التركيين، رسائل موجهة إلى تركيا لوقف تقدمها باتجاه الباب الذي تستميت القوات الكردية للفوز بها قبل الأتراك، كما يسن نظام دمشق الكيماوي أسنانه للسيطرة عليها بعد الانتهاء من حلب الشرقية.
كانت العلاقات بين أنقرة ونظام دمشق في أفضل ما يمكن أن تكون عليه بين بلدين متجاورين، حين اندلعت الثورة السورية. وحاولت الحكومة التركية، في الأشهر الأولى للاحتجاجات الشعبية السلمية، إقناع النظام بإجراء إصلاحات محدودة في النظام السياسي تجنباً لتعمق أزمة النظام أمام الثورة الشعبية. وهناك من يقولون إن أنقرة أرادت من النظام إشراك الإخوان المسلمين في الحكم، الأمر الذي رفضه النظام رفضاً قاطعاً. وهو ما سيكرره الإيرانيون أيضاً، في وقت لاحق، بشأن تطعيم حكومة الأسد بوزارات هامشية تعطى للإخوان، وسيتكرر رفض النظام للاقتراح الإيراني. وهكذا انتهى شهر العسل المديد بين دمشق وأنقرة، لينتقل الأتراك إلى دعم المعارضة السياسية والمسلحة بكل إمكاناتها. وفتحت تركيا حدودها أمام موجات اللاجئين الفارين من جحيم قصف النظام للمدن والبلدات السورية. كانت قراءة القيادة التركية لثورات الربيع العربي، والثورة السورية بصورة خاصة، أنها ستنتهي بسقوط الأنظمة وصعود التيار الإسلامي (الإخواني) إلى الحكم. وهو ما سيعطي زخماً إضافياً لطموحات تركيا الجديدة في توسيع نفوذها جنوباً بعد عقود من الانتظار غير المجدي أمام أبواب أوروبا. في سوريا بالذات التي وضعت فيها تركيا كل ثقلها لمساعدة الثورة على الإطاحة بالنظام، تعقدت الأمور وامتد الصراع طويلاً بسبب خذلان الأمريكيين لحليفهم التركي الذي طالب، مبكراً، بإنشاء منطقة حظر طيران واصطدم بالرفض العنيد لإدارة أوباما. وكذا فيما يتعلق بدعم الثوار بسلاح نوعي. وهكذا وجدت تركيا نفسها وحيدة في مواجهة المشكلة السورية، غير قادرة على التقدم ولا على التراجع. وباتت مسؤولة عن عبء كبير يشكله اللاجئون السوريون على أراضيها، بعددهم الذي بلغ ثلاثة ملايين. ثم كان إسقاط طائرة السوخوي وتداعياتها التي شلت يد تركيا في سوريا.
ما الذي بقي من الطموحات التركية في سوريا، بعد أكثر من خمس سنوات من الانخراط في الصراع؟ بقي فقط موضوعان: منع إقامة كيان كردي على الأراضي السورية، وابتزاز أوروبا باللاجئين السوريين.
٭ كاتب سوري