الرئيسة \  واحة اللقاء  \  للقضاء على داعش لا بد من استئصال الدواعش الطائفية الأخرى

للقضاء على داعش لا بد من استئصال الدواعش الطائفية الأخرى

20.09.2014
د. عبد الحميد صيام



القدس العربي
الجمعة 19-9-2014
تعمل الولايات المتحدة الأمريكية هذه الأيام على بناء تحالف دولي واسع لإنهاك ومن ثم استئصال تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروف باسم "داعش"، رغم أن التنظيم يطلق على نفسه الدولة الإسلامية. ومع أن الكثيرين يشككون في نوايا الولايات المتحدة التي تكيل بمكيالين ولا تتحرك إلا إذا وصل لهيب الحرائق إلى أصابعها، إلا أن التنظيم ليس له أصدقاء ولا حاضنة شعبية تقيه من الاستئصال ولا قنوات خارجية ترفده بالمال والرجال إذا ما حوصر وسدت جميع الطرق من حوله، ولا يملك أيديولوجية سمحة تفتح الأبواب على مصاريعها للمدافعين عنه والمشفقين عليه. لكن الذي يثير الشك أكبر في الحملة الأمريكية، سكوتها الطويل على الميليشيات الشيعية التي أحكمت سيطرتها على العراق، خاصة أيام المالكي، وراحت تلاحق معارضية وتقتلهم وتهجر الأحياء وتضطهد الكتاب والصحافيين والرسامين والفنانين وناشطي حقوق الإنسان والمعارضة السلمية. لقد أعادوا إنتاج الخطاب الطائفي الذي يدعون أنهم ثاروا عليه وأحيوا نعرات قديمة تعود إلى أكثر من 14 قرنا، تبريرا لما يمارسونه اليوم. لقد أثاروا قبل سقوط النظام على أيدي الغزاة الأمريكيين، قضية اضطهاد النظام للمكون الشيعي الذي يزيد عن نصف سكان البلاد.
شتتهم النظام وأذاقهم جرعات كبيرة من الظلم أكثر من أي مكون آخر من أبناء العراق، فلجأوا إلى إيران وحملوا السلاح ضده، إلى أن لاحت الفرصة فعادوا بسلاحهم وأيديولوجياتهم المغرقة في تعصبها. فما الذي يبرر وجودهم بعد تغير الأيدي وتسلم السلطة للغالبية العددية، مفترضين أن الانتخابات التي عقدت تحت هيمنة المحتل الأمريكي كانت عادلة ونزيهة وإن كنا نشك في ذلك؟ إن من بين الأسباب التي كانت وراء تمدد حركة "داعش" وانتشارها بسرعة، خاصة في المناطق السنية، الخوف من "الدواعش الشيعية" التي أمعنت ظلما وقهرا وقتلا في جزء أصيل من أبناء العراق، لدرجة أن الخلاص منها كان يبرر لهم التحالف مع الشيطان حتى لو كان من نوع "داعش". فإذا لم تجتث تلك "الدواعش الشيعية" مزامنة مع الحرب على "داعش" السنية فسيتم إعادة إنتاج المشهد مرة أخرى تحت مسميات وتحالفات جديدة وأسلحة مختلفة، وربما في أكثر من منطقة أو بلد أو إقليم.
 
الميليشيات الطائفية في العراق
 
تختلف الروايات على عدد الميليشيات الطائفية في العراق والمنتمية للشيعة. يرتفع العدد عند البعض إلى أكثر من 30 مجموعة، وقد ينزل إلى ما دون ذلك بكثير. لكن المجموعات المتفق عليها التي لا يختلف على قوتها هي أربعة، "عصائب أهل الحق، وفيلق بدر الذي أصبح منظمة بدر، وكتائب حزب الله وكتائب أبو الفضل العباس" الذي نقل كثيرا من نشاطه إلى سوريا بحجة حماية المقامات المقدسة. وكي لا يطول المقال سنقصر حديثنا على العصائب والفليق كعينة فقط عن "الدواعش الشيعية" التي ساهمت في إنتاج "داعش" السنية.
 
عصائب أهل الحق
 
من أغرب الأمور أن عصائب أهل الحق التي كانت فيما مضى تستهدف الأمريكيين، تصطف الآن إلى جانبهم في الحرب على "داعش". لقد تلقت العصائب دعما إيرانيا طوال عقد من الزمان، خاصة خلال سنوات حكم نوري المالكي الذي تبنى العصائب ودعمها وأطلق يدها، حتى أصبحت الميليشيا الأكثر عدة وعددا. وقد استهدفت المناطق السنية والناشطين، كما يقول تقرير مفصل صدر عن "منظمة رقابة حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش). يقول التقرير إن المنظمة وثقت مقتل 61 سنيا بين 1 حزيران/يونيو و 9 تموز/يوليو 2014. كما قتلت العصائب 48 سنيا خلال شهري آذار/مارس و ونيسان /أبريل في قرى قريبة من بغداد تدعى "حزام بغداد". ويؤكد التقرير أن حكومة المالكي التي رعت العصائب استخدمتها كي تغسل يديها من المذابح الصغيرة التي كانت تشنها تحت مبرر أن هذه أعمال ميليشيات لا دخل للحكومة فيها. وقد اقتبس التقرير كلام مسؤول حكومي يقول "إن العصائب تتلقى أوامرها من قائدها قيس الخزعلي، الذي انشق عن جيش المهدي بقيادة مقتدى الصدر عندما اشتبك الجيش مع القوات الأمريكية في الحلة عام 2004. وأنشأ الخزعلي العصائب عام 2006 واستقلت تماما عن جيش المهدي حتى بعد المصالحة بين الصدر والخزعلي عام 2005.
تتسم عمليات المجموعة بالرعونة والدموية وشبه العلنية، خاصة في بغداد وديالى. ويوثق التقريرعمليات جرت خلال شهري 6 و 7 حيث قامت مجموعات من العصائب بلباس مدني بدخول أحياء منها، الزعفرانية والبياع والغزالية واقتادوا شبابا جميعم من أهل السنة ووجدت جثثهم ملقاة بعد عدة ساعات وقد أعدموا جميعا بطلقات في الرأس. وفي يونيو دخل اثنان إلى مقهى شعبي مشهور في حي الشعب بلباس مدني وأعدما صاحبي المقهى السنيين أمام زبائن المقهى وعلى بعد عشرة أمتار من حاجز عسكري. وفي 7 تموز/يوليو وجدت 53 جثة شمال مدينة الحلة لرجال مقيدي الأيدي تم إعدامهم جماعيا بطلقات في مؤخرة الرأس. وإلى جانب الجثث وجدت رسالة من العصائب تتبنى المسؤولية.
كما تقوم العصائب بالاعتقالات والخطف والقتل والتعذيب بدون أدنى اعتبار لأي نوع من المساءلة.
وبعد استفحال خطر "داعش" وتمدده في العراق وانهيار الجيش العراقي في 10 يونيو، قام المالكي بدمج الميليشيات تحت مسمى "أبناء العراق"، بهدف الزحف على المناطق التي تسيطر عليها "داعش" لاسترجاعها. وقد استفحلت قوة العصائب بعد انهيار الجيش وأصبحوا في موقع يعطي أوامر لقوات الأمن، حيث منحهم المالكي صلاحيات قانونية لا حدود لها وأطلق أيديهم ليفعلوا ما يشاؤون. يقول طبيب من وزارة الصحة: "تحاول العصائب أن تمارس التطهير العرقي ضد السنة في مناطق حزام بغداد، ونسمع كل يوم عن قتل مدنيين في قرى الحزام مثل المدائن واللطيفية واليوسفية وأبو غريب". ويقول التقرير: "في 30 يونيو الماضي وصلت ثلاجة الموتى 23 جثة لرجال من السنة من المقدادية، يبدو أنهم شيوخ قبائل أعدموا في الوقت نفسه وخلال اجتماع"، كما قال طبيب لمنظمة هيومن رايتس ووتش. ويستمر التقرير في رواية تفاصيل استهداف الرجال من السنة وقتلهم وتعذيبهم ومصادرة ممتلكاتهم وطردهم من الأحياء المشتركة. ونقلت "القدس العربي" (17/8/2014) عن شهود عيان أن العصائب أعدمت ميدانيا 27 شخصا من سكان بهرز في محافظة ديالى مؤخرا، من بينهم نساء. وقد أعلن الحراك الشعبي في ديالى أن "حربا طائفية تقودها ميليشيات وأحزاب طائفية تجول وتصول بحرية في ديالى، وهناك قيادات أمنية طائفية توفر الغطاء لتحرك الميليشيات التي ترتكب جرائم ضد المدنيين".
ولا يشك أحد أن الميليشيات تلك تابعة للعصائب، فهي تتعدى الحواجز بدون مساءلة وتسوق سيارات بدون لوحات وتحمل سلاحا متشابها وتقتل بدم بارد. فما الفرق بين هؤلاء و"داعش"؟ ألا يمثلون الوجه الآخر القبيح للحقد الطائفي والتعصب والإرهاب؟
 
فيلق بدر/ منظمة بدر لاحقا
 
تشكل الفيلق عام 1982 في إيران، كجناح عسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق. وضم الفيلق آلاف العراقيين الذين هربوا من العراق ولجأوا إلى إيران أثناء حكم الرئيس السابق صدام حسين. وما إن احتلت الولايات المتحدة العراق عام 2003 حتى عاد الفيلق إلى العراق واستغل حل الجيش العراقي على يد الحاكم الأمريكي بول بريمر، لتسيطر ميليشيات الفيلق على أجزاء واسعة من العراق، خاصة المناطق ذات الغالبية الشيعية. انضم الفيلق باسم منظمة بدر إلى قوات الأمن ووزارة الداخلية والجيش الذي بدأ تأسيسه من جديد، ذي اللون الطائفي الواضح. وقد ركزت قيادة الفيلق على السيطرة على وزارة الداخلية وأصبح بيان جبر أحد قادة الفيلق وزيرا للداخلية العراقية.
في عام 2006 أكد تقرير الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أن مئات العراقيين عذبوا وقتلوا في وزارة الداخلية التي يسطر عليها المجلس الأعلى، كما نقلت جريدة "الإندبندت" البريطانية عن جون بيس الذي أعد تقرير الأمم المتحدة حول الصراع الطائفي في العراق. ويقول التقرير إن وزارة الداخلية كانت تسيطر على نحو 10000 بين شرطة ومخابرات وأجهزة أمنية وشكلت كتائب عديدة لمواجهة الهجمات التي كانت تشنها "القاعدة"، مثل لواء النمر ولواء العقرب ولواء الذئب وقوات المغاوير التي أنشأها الجيش الأمريكي.
وتتحرك عناصر فيلق بدر بأزياء خاكي مموهة ويسوقون سيارات بيك آب حاملين اسلحتهم، وكلما مروا في حي من أحياء السنة ينشرون الرعب، وغالبا ما تجد من يعتقلونهم مقتولين بعد أيام وعلامات التعذيب بادية على أجسامهم. لقد شكل الفيلق كتائب الموت عام 2006 وكانت علامات التعذيب والإعدام بطلقات في الرأس على ثلاثة أرباع القتلى كما جاء في تقرير جون بيس.
وكان محمد باقر الحكيم الذي اغتيل في مقام الإمام علي (رضي الله عنه) في النجف يوم 29 آب/أغسطس 2003 قد حل الفيلق وحوله إلى منظمة مدنية، مؤكدا أن دور الفيلق انتهى بعد سقوط نظام صدام حسين. إلا أن تقارير حقوق الإنسان تؤكد قيام الفيلق /المنظمة لا فرق، بعمليات اغتيال واسعة ضد القادة العلمانيين وأعضاء حزب البعث السابقين. وقد عادت أخبار الفيلق أخيرا إلى الواجهة، حيث أفاد مراسل وكالة الأناضول، بأن اشتباكا وقع في قرية البشير قرب كركوك بين 100 من مسلحي فيلق بدر وتنظيم "داعش" قتل على أثره عدد غير معروف بسبب تعذر الوصول إلى قرية البشير.
 
العنف يولد العنف والتعصب لا يجلب إلا تعصبا مثله
 
نستطيع أن نستمر في سرد جرائم الميليشيات السنية والشيعية وهي كثيرة. لكنني أحببت أن أذكر القارئ أن "داعش" لم تأت من فراغ، بل إن الظلم اللامحدود الذي مارسته الميليشيات الطائفية ضد المكون السني في العراق خلق البيئة المناسبة لاستقبال داعش، على طريقة اختيار المر هربا من الأمر. هذا لا يعني أننا نغفل ما فعلته الميليشيات الإرهابية التي كانت تفجر الحسينيات وتقتل القيادات الشيعية وتعتدي على المقامات أيام دولة أبي مصعب الزرقاوي وآخرين قبله وبعده. لكن الذي نراه اليوم هو محاولة لتمكين المليشيات الطائفية الشيعية بلعب دور أساسي في الحرب على "داعش" كي تتقاسم النصر مع الميليشيات الكردية والجيش. وإذا لم يكن هناك جيش عراقي وطني مبني على أساس المهنية والمواطنة المتساوية والابتعاد عن أي اتجاه طائفي فسيتكرر المشهد مرة أخرى وستنتهي "داعش" لتفسح المجال لدواعش جدد أكثر تعصبا ودموية يدعون للرد على نير القهر الطائفي الجديد، ويردون على الميليشيات الطائفية بتكوين جماعات تكفيرية إرهابية جديدة ويفتحون صفحات جديدة من العنف الذي يقتل فيه الأبرياء حتى لو أصطفوا ضد "داعش" أو ضد العصائب. فلا حل لمعضلة العراق إلا بنبذ الطائفية من كافة الأطراف واعتماد ديمقراطية توافقية لا تقصي أحدا، تضم أبناء العراق جميعا على طريق بناء عراق الغد الديمقراطي الحر اللاطائفي المتسامح السلمي المتعدد الأطياف، المستند أولا إلى وحدة شعبه وثانيا إلى أمته العربية، ثم إلى عمقه الاسلامي العريض. الانتصار على "داعش" ليس عن طريق السلاح فحسب بل عن طريق اجتثاث الأسباب التي هيأت له فرصة الظهور أصلا.
 
٭ أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك