الرئيسة \  واحة اللقاء  \  كأنها المعركة الأولى في حرب سوريا

كأنها المعركة الأولى في حرب سوريا

11.11.2017
حسن داوود


القدس العربي
الخميس 9/11/2017
لم تظهر روشاك أحمد ولا لمرّة واحدة في فيلمها، على الرغم من وصفها له بأنه مذكرات يومية عن الحرب. ظلت دائما خلف الكاميرا، بل هي، من أجل أن تظل قليلة الحضور أمام من عملت بينهم، اثني عشر يوما واثنتي عشرة ليلة، كانت تخفي ما أمكنها من هيئتها.
ذاك أنهم رجال كلّهم وهم، بسبب الحرب التي يخوضونها، مسيطرون على المكان الذي تنطلق منه هجماتهم. لا أحد سواهم هناك في ذلك الجزء من مخيم اليرموك. المباني خالية تماما، من نسائها ومن رجالها أيضا. لقد أسرع الساكنون إلى المغادرة، رغم علمهم بأن البيوت، من فور ما تُخلى… لا تعود بيوتهم، حسبما يقول قائد فرقة المقاتلين. هم، فريق المقاتلين، وحدهم إذن في ذلك الشارع. عشرة رجال أو أكثر قليلا، حتى أنهم لم يكونوا منتظرين أن يشاهد أحد عراضتهم وهم يتظاهرون وحدهم، رافعين يافطات وأعلاما، وهاتفين بسقوط النظام.
في الشارع المواجه، هناك على بعد ثلاثمئة متر، هناك في صف المباني المقابل، رجال النظام القاطعون مداخل المخيم بالقنص. لم نشاهد منهم أحدا، فقط بقع ضوء بيضاء تظهر على شاشة الآلة، تشير كل بقعة منها إلى أن هذا جسم حي، ساكن أو متحرك. هي آلة تشبه، باستثناء شاشتها، آلات إبقاء الكهرباء مضبوطة في البيوت. وقد عثر عليها أحد المقاتلين أثناء إعدادهم لخطة هجومهم. ونحن، مشاهدي الفيلم في صالة سينما صوفيل، رحنا نتساءل كيف كان يمكن لهؤلاء المقاتلين، المعارضين للنظام، أن يقوموا بعمليتهم تلك لولا تلك الآلة. ذاك أنها بدت، من لحظة ما رُكّزت مطلّة على المباني المقابلة، حيث جنود النظام، كما لو أنه عُهد إليها بأن تقوم بأكثر العمل. لكن، وعلى كل حال، لم توفّق هذه الآلة حيث كان سيفشل المقاتلون من دونها. لم يتمكن هؤلاء من قنص القناصين، إذ كان هؤلاء يردون على النار بمجرد ما تئز أولى الرصاصات. كانت الحرب، بالنسبة إلى مقاتلي المعارضة هؤلاء، المنتسبين إلى الجيش الحر، حسبما ذُكر في التعريف بالفيلم، ما تزال في أوّلها، آنذاك في 2013 سنة تصوير المخرجة روشاك أحمد لمَشاهدها تلك. كان لا بدّ إذن، بعد فشل الهجوم، أن يُقبل العرضُ الذي تقدمت به جبهة النصرة لمجموعة المقاتلين، وهو أن تتّجه شاحنة محملة بالمتفجرات، إلى حيث بنايات العدو الثلاث، ويفجرها سائقها الانتحاري هناك.
وقد تمكّنت المخرجة الشابة من تصوير الانفجار الضخم في لحظته. لم يكن صوته راعدا كفاية ولم تكن بالغة الضخامة كتلة النار التي أحدثها. لكن البنايات الثلاث تهدمت، وقُتل من فيها، وقد رأينا ساق أحدهم بين الركام الذي، لتصويره، تقدمت المخرجة، حاملة كاميرتها الصغيرة، إلى مقربة من دماره.
هو انفجار واحد، أو انفجار أول، لكنه قفز بالحرب قفزة ضخمة إلى الأمام، بل إنه اقترح على المخرجة أن توقف فيلمها عنده، رافضة تعدي الخط الذي كانت الأمور فيه كأنها جارية بين هواة. المقاتلون الهواة الذين، حتى قائدهم، كان قد ترك دراسته في الجامعة ليلتحق بالتظاهر والاحتجاج أولا ثم بالقتال العسكري. وهي أيضا، روشاك أحمد، الهاوية هي أيضا، تعدى بها الانفجار إلى ما لم تكن تستطيع خوضه. قالت لجمهور سينما صوفيل، بعد عرض الفيلم الذي استغرق نحوا من ستين دقيقة، إنها غادرت من بعده، بل هاجرت إلى ألمانيا، تاركة الأشرطة التي صورتها، أربع سنوات، حتى 2017 حيث بدأت بالعمل لجعلها فيلما وثائقيا.
لكن أين هم أولئك الذين عاشت بينهم، وإن من وراء كاميرتها اثني عشر يوما واثنتي عشرة ليلة؟ قالت في محادثة ما بعد الفيلم أنها لا تعرف أين هم الآن. ربما قضوا، ربما هاجر بعضهم إلى أوروبا مثلا، أو ربما ما زال بعضهم على قيد الحياة. هكذا تُركنا، نحن من كنا نشاهد كيف كانوا يعدّون لمعركتهم تلك، بدون أن نعرف إلى ماذا انتهوا. لكن الأغلب أن الحرب تعدّتهم، مسرعة هكذا إلى استبدالهم بآخرين يحسنون بشاحنة واحدة، وسائق واحد، أن يفجروا ثلاثة أبنية ويقتلوا كل من كانوا يتحصّنون فيها.
لقد تعدتهم الحرب مرات كثيرة وليس مرة واحدة، وذلك بقفزات سريعة حتى لتبدو فصولها مسابقة بعضها بعضا. دبابات وصواريخ وطائرات وسفن محاصِرة ودول كبرى متنازعة وهجرات متسعة النطاق بمئات الأضعاف. قبل ذلك، في الفيلم، بل في سياقه الذي قطعته شاحنة جبهة النصرة، كان ما في حوزة المقاتلين رصاصات لا تكفي لخوض معركة، وثلاث قذائف مدفعية، سقطت إحداها ولم تنطلق، وقد استعيرت من مقاتلين في حيّ مجاور. الحرب التي كلما تقدمت مراحلها صارت جارية بين غرباء مجهولين، بين من لا تحتويهم كاميرا صغيرة كتلك التي حملتها روشاك أحمد.
ربما كان بين الحاضرين في صالة السينما بعض من أتيح له أن يشاهد ذلك الفاصل الأول من حرب لبنان، في سنة 1975 أو 1976، حين كان على المقاتلين أن يبذلوا قدرا كبيرا من جهد التقليد والتشبه لكي يظهروا على مثال ما هم المقاتلون الحقيقيون. كانت تلك فترة قصيرة على كل حال إذ ما لبث آخرون أكثر بأسا أن تولّوا المهمة عنهم.
عرض فيلم "12 يوما 12 ليلة" ضمن "مهرجان الأفلام حول حقوق الإنسان والهجرة" في سينما صوفيل في بيروت، كما قُدّمت أفلام منه في مدينتي حمانا والنبطية، في الفترة من 2 إلى 4 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري.
 
٭ روائي لبناني