الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا وسياسة ما بعد الحقيقة

سوريا وسياسة ما بعد الحقيقة

08.01.2017
مالك التريكي


القدس العربي
السبت  7/1/2017
أدت ثورات 2011 إلى ازدهار مفردة "الحراك"، فصار كل عمل جماعي أو اعتمال اجتماعي أو تحرك منظم أو فوضوي يسمى حراكا شعبيا. وقد كان من نتائج كثرة التداول ورتابة الترداد أن نسي الجميع تقريبا أن مفردة "حراك" لم تكن تستعمل حتى أعوام قريبة، سواء في العلوم الاجتماعية أو حتى في الخطاب العام، إلا في سياق محدد: هو إمكانية الارتقاء الاجتماعيsocial mobility.
وكان من الطبيعي في بلدان العالم الثالث عموما أن يتم الحديث، في العقود الستة أو السبعة الماضية، عن التعليم، مثلا، باعتباره من أهم مفاتيح الحراك، أي الارتقاء، الاجتماعي أمام الشرائح الشعبية التي كان محكوما عليها، قبل تعميم التعليم المجاني، بـ"الرسوب" في نفس أوضاع الفقر والجهل والحرمان التي كان يعيشها الآباء والأجداد طوال القرون.
بالموازاة، أدت حملة "البركسيت" في بريطانيا وحملة الرئاسيات في أمريكا عام 2016 إلى ازدهار عبارة "ما بعد الحقيقة"، حتى أن معجم أكسفورد المرجعي قد توّجها "عبارة العام". وتعريفها في الانكليزية أنها "نعت يتعلق بـ، أو يدل على، أوضاع تكون فيها (شواهد) الوقائع الموضوعية أقل تأثيرا في تشكيل الرأي العام من إثارة العواطف والمعتقدات الشخصية". وبما أن العبارة الكاملة التي شاعت لدى أبناء العمومة من الأنكلوساكسون هي "سياسة ما بعد الحقيقة"، فقد أصاب الكتاب والمعلقون الذين عرّفوها بأنها "ثقافة سياسية يكون فيها النقاش العام محكوما، إلى حد بالغ، بالمساعي الرامية لاستمالة المشاعر بمعزل تام عن دقائق البرامج السياسية المطروحة وتفاصيلها، وبالتعبير المتكرر عن آراء ومواقف متحيزة وخاطئة ولكنها تتجاهل كل ما يدحضها من ردود مرتكزة على الوقائع والحقائق".
ألا تذكّركم هذه "الثقافة السياسية" بأحد من عندنا؟ ألا يوجد بيننا، نحن العرب، عدد كبير من أبطال هذا الإنكار اليومي والدائم للحقائق الدامغة؟ وهل هناك من هو أجدر بأبوّة، أو حقوق تأليف، هذه السياسة من أنصار النظام السوري؟ هؤلاء الذين أيدوا الشعوب في تونس، ومصر، وليبيا، والبحرين واليمن. ولكن عندما أتى دور الشعب السوري، نكصوا وتنكروا لما كانوا يناصرونه بالأمس (بل إن كثيرا منهم تنكر لما ظل يناصره حتى اليوم في تونس ومصر… الخ). عندما أتى دور الشعب السوري، وقف أنصار شيخ "الممانعة" وحكيمها في العقبة! ويبدو من شدة التمادي في التعامي عن الحقائق طيلة سنوات أن مؤدلجي "الاستثناء السوري" من هؤلاء لم يدركوا حتى اليوم فضيحة التناقض المنطقي والتهافت المبدئي والتخاذل الأخلاقي في تأييدهم للنظام السوري (أي الآلة المتمركزة حول آل الأسد) ضد شعبه. ورغم أن أنصار بشار هؤلاء يتذرعون بـالعسكرة وبركوب الميليشيات المتطرفة موجة الثورة وبالتدخل التخريبي لبعض القوى الإقليمية (وهذا كله صحيح، ولكنه لم يقع إلا لاحقا)، فإن الواقع أن تأييدهم لآلة آل الأسد قد كان واضحا منذ البداية، أي منذ آذار/مارس 2011 وطيلة الأشهر القليلة التي كانت فيها المظاهرات سلمية وكانت قوات النظام تطلق عليها الرصاص، ثم تطلقه مجددا على جنائز الضحايا من قتلاها في تلك المظاهرات!
إلا أن الممانع رقم واحد في دمشق قد برع في تسفيه اجتهادات أنصاره في مختلف البلاد العربية. سألته مبعوثة صنداي تايمز قبل شهرين إن كان يستطيع أن يغمض له جفن في الليل وهو يعلم أن آلاف الأطفال السوريين يقتلون في حلب وسواها. فضحك الممانع. أي نعم، ضحك! ثم قال: "أدرك معنى السؤال. إني أنام بانتظام. أنام وأعمل وآكل بطريقة عادية، وأمارس الرياضة". وعندما سألته الصحافية عن شعوره إزاء كل أعمال القتل المستمرة في بلاده، استهان بالخطب وقال "الخطأ يقع على الإرهابيين. إننا نتحدث هنا عن حرب وليس عن عمل خيري".
لو كان السؤال موجها حتى لشذّاذ الطغيان، من أمثال القذافي وبوكاسا، فربما ما كان ليعجزهم أن يقولوا في مثل هذا الامتحان، الذي نكاد نجزم أن لم يسبق بشار إلى السقوط فيه إنسان، شيئا من قبيل: "إني لأحزن لمقتل أيّ كان من أبناء بلادي، ناهيك عن الأطفال. كم وددت لو أني استطعت تجنيب شعبي كل هذا البلاء العظيم. النوم؟ من الصعب على من فيه نزر من آدمية ألا تؤرّقه هذه المشاهد التي تقطع نياط القلب".
 
٭ كاتب تونسي