الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا: "موضوعية" التشفي في الضحية!

سوريا: "موضوعية" التشفي في الضحية!

10.09.2017
مالك التريكي


القدس العربي
السبت 9/9/2017
كثرت التعليقات السياسية والإعلامية التي تتلذذ بتأنيب بعض الأطراف السورية والعربية التي يبدو أنها لماّ تفهم بعد أن “نظام الأسد قد انتصر” في الحرب الأهلية. تعليقات تتدرع بالواقعية وتتذرع بالموضوعية لتبرير الواقع الهمجي اللاإنساني ولشرعنة القوة باعتبارها هي عين الحق (حسب التعبير الانكليزي الشهير)، بل ولإعلاء القوة فوق الحق. تعليقات محيرة لأن فيها من الالتباس الشديد ما يجعل من الصعب على القارىء أو السامع أن يميز فيها بين ما هو تقرير لواقع وبين ما هو احتفاء بهذا الواقع وانتشاء بذاك “النصر”. تعليقات ربما تطمح أن تكون واقعية أو موضوعية، ولكنها لا تحسن كتمان نزعتها الانتصارية!
صحيح أن المؤرخ الإغريقي ثوسيديدس، الذي مهد لنظرية “حالة الطبيعة” في العلاقات الدولية وكان مدشن المدرسة الواقعية في فهم الحروب والنزاعات، قد قال في سياق روايته لوقائع حرب البيلوبونيز بين أثينا واسبرطة في الثلث الأخير من القرن الخامس قبل الميلاد: "نعرف وتعرفون، باعتبارنا أناسا عمليين، أن مسألة العدالة لا تثار إلا بين أطراف متكافئين في القوة، وأن الأقوياء يفعلون ما في وسعهم وأن الضعفاء يتكبدون ما لا منجى لهم منه". ولكن ذلك لم يكن انتصارا من ثوسيديدس للأقوياء ولا تشفيا في الضعفاء، مثلما هو حال المعلقين المصفقين لبطولات الأسد في غابة الحرب الأهلية التي أجج أوارها عدم الاكتراث الغربي وكثافة التدخل الإقليمي. بل إن المؤرخ الإغريقي الذي بحث كل الأسباب الممكنة لحرب البيلوبونيز قد تحلى بنزاهة فكرية مدهشة عندما عدّ النزعة الامبريالية التي تمكنت من دولة أثينا هي السبب الأصلي، أو "السبب الأكثر حقيقيّة" حسب تعبيره، لاندلاع النزاع الذي دام حوالي ثلاثة عقود.
أما تعليقات المدرسة الواقعية بشأن سوريا فإنها تمتد على طيف سياسي وإعلامي واسع يبدأ بستيفان دي ميستورا، الذي عرفناه جنتلمان دمثا وبالغ اللطف على المستوى الشخصي، ولا ينتهي بروبرت فيسك الذي حجبت عنه أحداث الثورات الشعبية العربية وما ارتبط بها من حروب أهلية كثيرا من الحقائق فأفقدته ما كان يتميز به طيلة عقود من وضوح الرؤية وصواب الرأي وانحياز للمظلومين. والغريب أن فيسك يعتبر أن انتصار نظام الأسد، بفضل إصرار روسيا على إنقاذ زبونها، هو فضح لمواقف ساسة الدول الغربية من أوباما إلى كامرون وهولاند بلوغا إلى تيريزا ماي، بل وحتى ترامب. وما يوحي به هذا القول هو أن القادة الغربيين قد كانوا جادين فعلا في دعم الثورة السورية وثابتين على المطالبة بوجوب تنحي رأس النظام. ولكن هذا ليس صحيحا. بل إن ما حصل هو العكس، حيث أن الدول الغربية، بقيادة أمريكا، ماطلت وتلكأت وبالغت في التسويف ولم تقدم للمعارضة الديمقراطية دعما يعتدّ به ميدانيا. وتضافر في هذا الموقف الغربي عاملان على الأقل: إحجام أوباما عن إقحام قوات بلاده في أي نزاع، واعتقاد الدوائر الغربية أن النظام منهزم آيل للسقوط لا محالة.
المحاولة الوحيدة لتقديم دعم عسكري عملي للثورة السورية أتت من حكومة كامرون، ولكن مجلس العموم امتنع عن إجازة مشروع قرار التدخل العسكري في سوريا لأن كابوس المشاركة في العدوان على العراق لا يزال يؤرق بريطانيا نخبة وجمهورا. ولهذا فالقول بأن انتصار النظام هو انتصار على السياسة الغربية تجاه سوريا فيه جنوح بعيد عن الصواب. بل على العكس: فقد انتهجت الدول الغربية سياسة اللامبالاة وترك الوضع يتعفن، أي أنه لم يكن لديها سياسة. أما سياسة روسيا فقد تمثلت في العمل الجاد على منع تكرر السيناريو الليبي في سوريا، بزعم أن العواصم الغربية خدعتها بشأن نواياها الحقيقية في ليبيا عام 2011. وبهذا المعنى، فإن نظام الأسد ليس مدينا ببقائه إلا لنظام القذافي..!
أما قمة الاستهتار فإنها تتمثل في أن نظام آل الأسد قد أصبح يستعد الآن للاستفادة من مشاريع إعادة الإعمار (!)، كما كتب الباحث جان بيار فيليو أخيرا. منطق سوريالي أساسه أن النظام لم يكن لديه أي يد في الخراب الذي حاق بسوريا طيلة الأعوام الماضية. خراب قدره البنك الدولي بما لا يقل عن أربعة أمثال الدخل الوطني السوري عام 2010: دمار تام لمؤسسات التعليم والصحة في كل مكان، ودمار كلي أو جزئي لحوالي ربع المساكن في حمص وحوالي ثلث المساكن في حلب، إضافة لوقوع ثلثي الشعب السوري فريسة للفقر المدقق.
 
٭ كاتب تونسي