الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حين يرد الأوروبيون والعرب على الجنون الروسي؟

حين يرد الأوروبيون والعرب على الجنون الروسي؟

23.02.2016
مطاع صفدي



القدس العربي
الاثنين 22/2/2016
تدخل منطقة الشمال السوري ومع جواريْه العراقي والتركي مصطلح وكر الأفاعي، حيثما يتكدس عديد الأفاعي فوق بعضه، وتلتف أجساد وحداتها على بعضها، لا يعرف جسد الواحدة منها إلا عبر أجساد الأخريات الملاصقة والمتلاصقة معها. أما رؤوسها فتختفي وراء أجسادها. هكذا يتعذر على كل مراقب خبير أن يرى إلى الفرقاء المتقاتلين في هذه الجبهات باعتبارهم قوى متعارضة ومختلفة فيما بينها.هناك كل أنواع المقتلات موزعة بين مجاميع الأكوام البشرية المتلاقية على قواعد واحدة ومتشابهة؛ من حيث أنها جميعها إنما منخرطة في الصراع المستمر أو أنها مستعدة لدورات منتظرة منه؛ هؤلاء الرجال والشبان الموزعون على كل الفرقاء لم يعودوا يؤلفون جيوشاً متفانية فيما بينها؛ بل كأنها كتائب في جيش واحد. رغم كل العداوات المعلنة ضد بعضها؛ هذه عِقَد الأفاعي تتغذّى من لحوم بعضها. وكل من هو خارج حلباتها يمكن أن يصير صيداً سهلاً لأية كَوْمة أفعوانية تزحف نحوه.
لا يفيد السؤال عمن قتل من، عمن انتصر في هذه المعركة أو انهزم أو اندحر. أية مزرعة أو قرية ربحتها هذه الفئة، وأية أخرى منها كسبها (العدو). فقد طُمست كل حدود المواقعيات المتمايزة في جغرافية التصحير والتقتيل الكاسحة، بعد أن تحولت مُدنها الشامية الزاهرة وأريافها المثمرة إلى شواهد قبور من الأحجار والهياكل البشرية المغمورة تحتها.
هذه الكتل البشرية المسلحة والمتقاتلة حول حدود "سايكس بيكو" الشمالية قد تجمعها رغم تناقضاتها التكوينية والإيديولوجية، ارادةُ الاستئثار بالمستقبل السوري لمصالحها الذاتية. إذ كلما فتحت جبهة صراع جديدة في هذه البقعة أو تلك من المساحة الشامية الشاسعة؛ كلما تراجعت قوى الثورة الأساسية نحو هوامش الهموم المستجدة؛ فمنذ أن اختطف الرئيس بوتين عَلَمَ المبادرات العسكرية، ومن ثم الدبلوماسية، من أيدي الغرب، وخاصة من يد صديقه وغريمه الزعيم الأمريكي، لم يعد يمكن فهم الحدث السوري إلا من جانب حساب الأرباح والخسائر التي يجنيها التفوق الروسي. كأنه أمسى هوَ اللاعب المركزي، والآخرون ليسوا سوى وسائط سلبية أو ايجابية لتحقيق نوايا الدب الأبيض الهابط من أعلى الكرة نحو ميادين البحار الحارة، بدءاً من البحيرة المتوسطية.
واضح حتى الآن أن الروس وحدهم لديهم ما يشبه استراتيجية ذكية أو مختلفة عن مثيلاتها لدى الأفرقاء الآخرين كأنها كانت ناجحة في معظم (إنجازاتها الراهنة) بينما الآخرون، والغرب وأمريكا في المقدمة، فإنهم أمسوا في عداد أدوات التنفيذ شاؤوا أم أبوا. والمستفيد الأول هو دائماً العنصر المهاجم الفوري الذي أتقن التدخل الروسي هندسته المطلوبة في كل معاركه السابقة. فمثلما لم يأخذ هذا التدخل إذناً من أحد، حتى من أمريكا التي اكتفى بإبلاغها بنواياه غير الصريحة، وبالتالي فقد تابع الروس هذا المنهج بالمباغتة، في مجمل تحركاتهم الميدانية المقبلة.
هكذا لا يمكن للجهات العليمة في الشأن الدولي أن تجزم بأن الغرب سوف يتنازل عن أهم أولوياته إزاء مسائل المشرق العربي، فيما يخصّ المبدأ التاريخي الذي يَعتبر الجنوب العربي الإسلامي نوعاً من القرين الثقافي والإقتصادي الذي يضاهي موقعه الجيوسياسي بالنسبة لقارة أوروبا. ولولا الفاصل البحري للمتوسط لكان الأوروبيون اعتبروا الجغرافية العربية الإسلامية هي بشكل ما امتدادا جنوبيا لجنوب قارتهم نفسها. فمن المسلم به لدى العارفين بتراث منطقة الحضارات المتوسطية أن عصر مدنية الحداثة ما كان له أن يكلل هامَة العالم كله إلا بفضل ذلك التاريخ الهائل لتشابك إقليميه محفوفاً دائماً بأقوى حراسة عقلانية، لفرصة صراع التكاملي بين الفرقين: الأوروبي الإغريقي المسيحي، والعربي الإسلامي. فهما معاً اكتشفا مرجعية الكونية، وإن اختلفا دائماً حول من تملّك منها خاصيةَ الأولوية لهذا القطب أو الآخر، ليس فحسب بالنسبة للكشف عن الكونية، بل لمقدرة كل منهما على فهم الكونية وترجمة معانيها واستجلاء آفاقها في استراتيجية صالحة لكل زمان ومكان. أي أن الكونية هي في المحصلة ملكية للإنسانية جمعاء وهي خاصيتَها المميزة لأقوامها وثقافاتها عن أصولها الحيوانية الفالتة أصلاً على هذا الكوكب الصغير.
هذه اللوحة الفكرية ليست مجرد خلفية فلسفية لا شأن لها بتحولات السياسة الدولية إلا على سبيل المعرفة النظرية وحتى الشعرية أحياناً. بل إنها المصدر الكينوني لمصطلح الشخصية المفهومية التي تتبارى حول مساراته الأممُ المولجة ذاتَها في صناعة مقاييس الحرية الحقيقية وحراستها عالمياً ضداً على وحوش القهر والاستغلال في كل مكان.
هذه الخلفية هي التي تفضح المغزى الوحيد للمغامرة الروسية، كونها مجرد رهان طفيلي، قد يفوز ببعض مفاجآته الأولى، لكنه كلما قتل أكثر من الشعب الأعزل، كلما دمر المشافي والمدارس والمخابز، فإنه بذلك يكشف أكثر عن غربته المطلقة بالنسبة لأية أدوار عقلانية أو أخلاقية يدعيها لأفعال الإبادية، متهماً الآخرين بكونهم من المتهورين الحاقدين والعابثين. كأنما بوتين يريد أن يخاطب شعبَ سوريا من وراء قنابله العنقودية أنه يكمل ما لم أنجزه رئيس النظام من إبادة كاملة ليس للمعارضة فقط بل لأصولها الشعبية وللشام نفسها صاقعة المعرفة منذ آلاف السنين. مثقفو أوروبا، هؤلاء الأحرار منهم هم الذين يناقشون الغزوة الروسية كونها نذير شؤم عام لعودة مظلمة القرون الوسطى، ولكن هذه المرة ستكون عودتها مصحوبة بأخطر الأدوات التكنولوجية عقلياً ونووياً معاً، لأهم طلائع التقدم الإنساني في عالم الغد.
وفي هذه اللحظة الاستثنائية من تاريخ المشرق، وربما العالم أيضاً، لن يظل الوعي بالغزوات الجنونية، على مثال بوتين، نوعاً من ترف ذات النفس بالتعالي عن التورط في هكذا مصير، من دون أن يصاد إلى التصدي له بطريقة ما. في الوقت الذي يبدو فيه العمق الجمهوري العربي أنه لن يبقى سكونياً تحت عربدات البعض من أمواجه على سطحه. لم يعد اليوم الذي سنرى فيه كل العرب مغرباً ومشرقاً وخليجياً قد ضربوا خيامهم وألويتهم في طول وعرض الصحراء الشامية والعراقية.
أما أوروبا فقد أوقفت زحف الدب الروسي عند حدود أوكرانيا في جنوبها الشرقي. لكن أوباما طرد الدب الروسي إلى الشام والعراق. هذا التعويض السياسوي المشبوه لا يرى فيه المثقف الغربي الحر عملاً لائقاً بكرامة الأمم العظيمة التي تدعي أنها تضع تفوقها العسكري والصناعي في خدمة المصلحة الإنسانية الكونية، بينما جعلها أوباما تصير، هذه الامتيازات، في خدمة صفقات الأرباح الفلكية الآتية من وراء تصفية الصراع مع دولة الملالي في إيران.
الغزوة الروسية ليست لها إلا الردة العربية والإسلامية التي باتت قاب قوسين أو أدنى على مستوى القرار والاجماع. ولم يبقَ إلا مخطط التنفيذ، مع الاحتياط الوحيد وهو ألا تمتد اليدُ الأمريكية من جديد إلى ما وراء الظهور. هل هذا ممكن؟ سؤال أوروبي حر. لن يبقى هو نفسه من دون أن يحرك شعوبه في الوجهة المطلوبة طويلاً ـ هل هذا ممكن حقاً!.
٭ مفكر عربي مقيم في باريس