الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حول رياض الترك واليسار السوري: مقاربة نقدية

حول رياض الترك واليسار السوري: مقاربة نقدية

15.09.2018
ماهر مسعود


القدس العربي
الخميس 13/9/2018
دأبت المعارضة اليسارية السورية منذ سبعينيات القرن الماضي على معاملة نفسها على أنها في موقع المنافس السياسي للنظام، وبالتالي معاملة النظام السوري على أنه في موقع الخصم السياسي، تحت سقف الوطن، وليس العدو.
أعطت تلك الخصومة صورة، هي أشبه بالخصومة السياسية بين أحزاب السلطة والمعارضة في أي بلد ديمقراطي، في الوقت الذي كان فيه النظام فعلياً هو الخصم والحكم، أي أنه هو من يملك البلد وسياسته، وهو من يحدد الخصوم، وهو من يحدد الأعداء. وقد أثبتت الأربعون سنة السابقة على قيام الثورة، أن الخصومة لم تكن إلا وهماً في رؤوس المعارضة اليسارية، أما في الواقع فقد كانت الحرب هي لغة النظام، إن كان مع المعارضة، أو مع الشعب السوري بشكل عام، وبالفعل أعلن النظام الحرب على المعارضة فقام بتصفيتها كليّا بين القتل والاعتقال في الثمانينيات، في الوقت الذي أعلن فيه أيضاً الحرب على الشعب، فقام بتركيعه تماماً، بعد أن جعل ممّا حصل في حماة عبرة لمن يعتبر.
منذ ذلك الوقت تحديداً، بدأنا بنظام البيعة، التي كان يفوز فيها الخليفة السوري بنسبة مئة في المئة، ولم يعد هناك أي معنى لكلمة حياة سياسية في سوريا، حيث السلطة لديها كل شيء، في حين ليس لدى المعارضة أي شيء، لا مقعد في البرلمان، ولا جمهور انتخابي، ولا حتى منبر صغير تخاطب عبره جمهورها المفقود.
لكن إصرار اليسار السوري المعارض على مبدأ الخصومة السياسية، يعود أصله لتقليد سياسي سوري ازدهر في الخمسينيات، ولا سيما في الفترة الديمقراطية بين عامي 54- 58، حيث مرّت الأحزاب السورية بمرحلة تنافسات هائلة وعلنية، وعاشت حتى مؤامرات ضد بعضها بعضا، لكنها بقيت رغم كل شيء ضمن إطار الحياة السياسية الفاعلة والفعلية.
وعلى الرغم من ابتعاد الواقع عن ذلك التقليد على نحو متواصل منذ انقلاب البعث أولاً، ثم استلام حافظ الأسد للسلطة ثانياً، والقطيعة المطلقة معه منذ أحداث الثمانينيات، بقي اليسار، الذي لم يطوّعه النظام – على طريقة أحزاب الجبهة التقدمية – مستمراً في النهج الخمسيني القديم ذاته، لكن بلا أنياب وبلا جمهور هذه المرة. وفي حين ذهبت المعارضة الإسلامية ممثلة بالإخوان المسلمين إلى السلاح كرد جدّي على غياب السياسة، رفضت المعارضة اليسارية التسلح، وفي حين كانت مواجهة النظام المُحتكِر للسلطة بلا سلاح ولا جمهور تساوي صفراً مكعباً، بقيت المعارضة اليسارية فخورة؛ على طريقة سقراط، بأن تبقى ضحية تُعذَب وتُسجن وتُقتَل، بدون أن تلوّث يديها بالسلاح!
وجدير بالذكر أيضاً، أنه بعد انتصار الأسد المزعوم في حرب أكتوبر/تشرين الأول، ثم استقرار سلطته والاعتراف الدولي بها بعد اتفاقية فصل القوات عام 1974 مع إسرائيل، أصبح من المتعذّر قيام المعارضة بأي دور بدون العودة للطوائف أو السلاح أو كلاهما معاً؛ وهو ما فعله الإخوان، حيث إن الاتكال على فكرة الحزب غير الطائفي، القائم على الأفراد بوصفهم أفراداً، لم يعد يُجدي نفعاً سياسياً، في ظل انغلاق أبواب السياسة واستنفار النظام للحرب الوجودية ضد أي معارضة ممكنة، بل إن النمط الحزبي غير الطائفي بات متعالياً ونخبوياً بالضرورة وموضوعياً، نتيجة أن اختيار الأفراد للانضواء تحت مظلة حزب يساري معارض وعابر للطوائف يعبّر عن أفكارهم، كان مجازفة لا يقوم بها إلا أشخاص متميزون ومنفصلون عن عقل الجماعات الطائفي، فهم يضعون أنفسهم تحت خطر الاعتقال، وربما الموت، على نحو دائم. وهذا النوع من الأحزاب سيبقى بدوره منفصلاً عن الجمهور، نتيجة شروط العمل السرية والبعيدة عن متناول الناس العاديين، كل ذلك كان يحصل فيما كان الانتساب إلى حزب البعث يصبح يوماً بعد آخر بمثابة الوضع "الطبيعي" الإجباري لأي مواطن سوري.
يمكن القول هنا، إذن، إن الأسد هو مُوجد الطائفية، بمعناها السياسي، في تاريخ سوريا الحديث منذ الاستقلال، حيث إن تحريم السياسة واختزالها في الحزب الواحد، ثم تناقض الأيديولوجيا العروبية الما فوق طائفية للحزب والدولة، مع البنية الطائفية لسلطة النظام المسيطرة فعلياً على الحزب والدولة، أديّا للانتقال من تحريم السياسة إلى تجريم الاعتراف بالواقع، فبات وصف الواقع هو العمل الطائفي، وليس الواقع ذاته كما فرضه النظام. ومع تعذّر القيام بأي عمل سياسي سلمي لتغيير السلطة أو تداولها، باتت خيارات التغيير، إما عبر المواجهة التي ستتخذ حتماً بعداً طائفياً، وإما عبر التدخل الخارجي، ولا ثالث لهما. وما حصل في الثورة السورية هو الدليل الساطع على ذلك.
يقال، عبر النقل الشفوي وغير المكتوب لآراء إلياس مرقص، إنه عندما التقى رياض الترك في بيروت بعد ثورة إيران الإسلامية عام 1979، التي كان يراها مرقص أكبر خطر مقبل من الشرق، قال مرقص للترك بأنه لم يعد يملك سوى خيارين: إما حل نفسه "أي حزبه" أو التوجه نحو السلاح، لكن الترك أبى أن يأخذ بأي من الخيارين فدخل السجن بعد عام واحد، وبقي فيه حتى عام 1998، بينما ذهب الإخوان المسلمون وحدهم نحو خيار السلاح والتحشيد على أساس طائفي، فرد الأسد بسحق الإخوان عسكرياً، وتصفية كل اليسار المعارض سياسياً بحجّة الإخوان، مع استثناء أحزاب الجبهة التقدمية، التي باتت معارضتها "نظامية" بدون أي تأثير أو حتى تدخل في سياسة البلد.
لكن التاريخ أعاد نفسه مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، وأعاد اليسار والإخوان السيناريو نفسه وكل من موقعه، حيث ذهب الإخوان مع الخيار الشعبي بالتسلح حتى آخره، واستثمروه جيداً في التحشيد على أساس إسلامي طائفي، ورفضت هيئة التنسيق، مسألة السلاح بشكل شبه مطلق، بل أدى رفضهم الاعتراف بالجيش الحر إلى انهيار الاتفاق الأهم الذي كان سيجمع الهيئة والمجلس الوطني في القاهرة 2012، في حين تحالف إعلان دمشق مع الإخوان راضياً بمسألة السلاح، وحتى الأسلمة، بدون أن يلوّث يديه فعلياً بأي منهما.
ومثلما كان من الطبيعي في الثمانينيات أن تكون الجهة الأولى التي تعرض السلاح على معارضة إسلامية، هي جهات إسلامية، كان من الطبيعي بعد الثورة أن تعرض الجهات الإسلامية ذاتها، أو أخواتها، السلاح على المعارضة الإسلامية ذاتها، أو أخواتها. ومثلما وقف العالم مع النظام في الثمانينيات، حفاظاً على أمن إسرائيل واتقاء لشرِّ ثورة إسلامية رديفة للثورة الإيرانية في سوريا، كذلك فعل بعد 2011، ولاسيما بعد انتصار الإخوان المسلمين في مصر واتجاههم السريع نحو أسلمة الدولة، لاسيما القضاء والتعليم والجيش، ووضوح مشروعهم الإقليمي الممتد من تونس إلى تركيا، الذي كان لابد من تحطيمه.
إذا كانت انتهازية الإخوان قد لعبت دوراً فاعلاً في أسلمة الثورة، فإن انتهازية اليسار المعارض لعبت دوراً لا يقل أهمية في عملية الأسلمة ذاتها وإن كان بالمعنى السلبي للعبارة، حيث إن الفراغ الذي تركه اليسار بعدم تبنيّه الصريح لخيارات الناس وعدم دخوله العملي المسلح في خيارات الثورة الإجبارية التي فرضها عنف النظام، جعل من القوى الإسلامية هي الأقوى على الأرض وفي السياسة، وجعل التمويل يتجه كعادته نحو الإسلاميين، ووضعَ اليسار عموماً في موقع المتفرّج والمشاهد والحَكَمْ، لا في موقع القرار وصنع الاستراتيجيات العسكرية والسياسية.
لقد ترفَّعَ اليسار وأراد أن يحصد النتائج، بدون أن تغوص أقدامه في الوحل، وأراد كعادته أن يلعب سياسة ضد من يعلن عليه الحرب صراحة، وفي وقت كانت فيه الكلمة الفصل، لأي سياسة مهما كانت، هي للحرب وموازين قوتها. كان إعلان دمشق؛ الذي يشكّل حزب الترك أحد أهم أعمدته، كمن يريد القتال بأدوات إسلامية للحصول على نتائج علمانية! فيما كانت هيئة التنسيق كمن يغني للعرس الديمقراطي في حفلة الدماء التي غطت أرض سوريا.
عودة إلى المسرح:
نشرت "القدس العربي" حواراً صحافياً مع المعارض البارز رياض الترك، أجراه محمد علي الأتاسي في باريس، وقد أشار الترك في اللقاء إلى عدة نقاط مهمة وموحية، أبرزت أهم آليات العمل المعارض بعد الثورة، وأشارت إلى نقاط الخلل والضعف والأخطاء الجوهرية التي صاحبت صعود مؤسسات المعارضة، ممثلة بشكل أساسي بالمجلس الوطني والائتلاف، كما دعا إلى إجراء مراجعة نقدية شاملة للعمل المعارض.
سأكتفي هنا بالإشارة النقدية إلى نقطتين إشكاليتين في طرح الترك، تعبران عن خلل جوهري في علاقة المعارضة اليسارية بالسلطة، أي النظام، أولاً، ثم علاقتها بالشعب السوري ثانياً، ثم علاقتها بالعالم أخيراً. يقول الترك في الحوار المشار إليه أعلاه: "إن الخلل الرئيسي اليوم لم يعد في بقاء الأسد من عدمه، أو في التمديد له سنتين أو أكثر، الخلل الرئيسي والحلقة المفصلية اليوم هي في الاحتلال، وضرورة النضال في سبيل إنهائه". وعندما يسأله الصحافي؛ المُحب والنديم؛ علي الأتاسي إن كان يدعو إلى تسوية سياسية مع النظام، يجيب بما معناه أن وجود النظام ليس سوى وهم في رؤوس البعض، ويستخلص ما يلي: "رأيي أن الكلام الغربي عن تسوية سياسية مقابل إعادة الإعمار، لا يصلح هو الآخر كأساس للحل، الأهم اليوم هو ألا تبقى سوريا فارغة من أبنائها، وعلينا أن نعمل من أجل تسوية سياسية تسمح بأن يعود السوريون إلى بلدهم. من أجل ذلك فإن المعركة اليوم هي مع المُحتل، وليس مع النظام، لأنه لم يبق هناك نظام يحكم، ولكن هناك بلد محتل ومحكوم من الأجنبي". وهنا نضع بعض الملاحظات:
*أولاً، إن الكلام عن الخلل الرئيسي باعتباره "لم يعد في بقاء الأسد من عدمه أو التمديد له سنتين أو أكثر" هو كلام يقوله مؤرخ من برجه العاجي، لا سياسيا عضويا وعاملا على أرض السياسة. فاليوم الذي يمضي على السوريين الآن هو بمثابة دهر، فما بالك بسنتين أو أكثر. وإن لم يكن عمل السياسي مُخططا على ما يمكن فعله اليوم، قبل غد، فلا نفع من عمله، ولن يصدقه أحد، في خطابه التاريخي القائم على المستقبل، فأي استراتيجية تاريخية يمكن أن يقيمها حزب في العالم، على بقاء الأسد لعام 2021، ثم التمديد له لسنتين، أو أكثر؟
*ثانياً، إذا كانت رؤية الترك بأن "المعركة اليوم هي مع المُحتل، وليست مع النظام لأنه لم يبق هناك نظام يحكم، ولكنْ هناك بلد محتل ومحكوم من الأجنبي" هي تحليل سياسي، فتلك مصيبة، ولكن إذا كانت رؤيته تلك هي برنامج عمل سياسي فالمصيبة هنا مثل الوعد، لا تُرَدُّ ولا تزولُ، حيث إن توجيه معركة السوريين نحو أي عدو آخر غير النظام الذي ثاروا ضده، هو عبارة عن نكوص يساري جديد نحو معارك قديمة؛ لم يخضها، ضد الاحتلال، وعودة للتعالي على الشعب، والانفصال عن موازين القوى، فحتى لو كان صحيحاً أن سوريا بلد محتل من عدة قوى أجنبية متضاربة، وهو صحيح، فإن الهدف الجامع لتلك القوى، هو حماية الطرف الأقوى الذي يحمي بدوره مصالحها ويحقق لها الاستقرار، فكيف يُطلب من أي شعب في العالم، أن يقاوم ويقاتل قوىً تحمي قاتله، بينما لا يستطيع المتكلم نفسه العودة إلى سوريا بدون وساطة دولية مع القاتل إياه! وكيف تطلق خطاباً يعادي جميع القوى المتدخلة في سوريا، ثم تطلب من القوى ذاتها أن تنصرك في تسويتك الميتافيزيقية العادلة مع النظام! لقد اختار النظام على الأقل اثنتين من تلك القوى المحتلة، مع أنه يعرف أنها محتلة، كحلفاء له، بينما خسرت أنت جميع الحلفاء، وتريد من الشعب قتالهم جميعاً، أي دونكيشوتية تلك؟ وأي طواحين هواء تحارب؟
*ثالثاً، إذا كانت عدمية الإسلاميين هي عدمية معادية للعالم جوهرياً، وعلى أسس حضارية لا يفهمها إلا أمثال هنتنغتون، وإذا كانت معاداة الغرب تحديداً لم تجلب للإسلام ولا للمسلمين سوى الهزائم والكوارث المتلاحقة منذ الثورة الصناعية، فلماذا على حزب يساري معارض، يتنطع لقيادة ثورة لم تخرج إلا للدخول في أتون العالم الحديث، والتصالح معه، واستجلاب ديمقراطيته لتصبح جزءًا من حياة الشعب الذي أرهقه الاستبداد، لماذا على هذا الحزب أن يعادي الغرب والشرق باعتبارهما معاً قوى أجنبية تحتل سوريا؟
نعتقد أنه إذا كان على المعارضة السورية بجميع أجنحتها نقد ومراجعة تجربتها، كما يطلب الترك نفسه في المقابلة، فإن على اليسار السوري المعارض تحديداً، مراجعة الأسس الفكرية والأيديولوجية التكوينية التي بنى نفسه على قواعدها، وإعادة تقويم القيم الأساسية التي دافع عنها ليرى مدى حداثتها أو قدامتها، خدمتها للفاشية أم الديمقراطية، معاداتها للعالم الديمقراطي والليبرالي أو مساوقتها وتبنيها الجدي للقيم المعاصرة. أما الاكتفاء بالإشارة لخطأ هنا وخطأ هناك، برنامج صحيح هنا وآخر خاطئ هناك، فتلك جميعها ليست سوى أعراض، لن يجدي تغييرها إلا بتغيير الوجوه القائمة عليها، الأجدى هو مراجعة جوهر العقيدة اليسارية ونقدها جذرياً، وإعادة بناء علائقها على نحو مختلف وأسس جديدة، إن كان مع الشعب، أو مع فكرة السلطة، أو مع العالم الخارجي.
كاتب سوري