الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حلب و"المجتمع الدولي": مطاحن الإجرام والتواطؤ والنفاق

حلب و"المجتمع الدولي": مطاحن الإجرام والتواطؤ والنفاق

18.12.2016
صبحي حديدي


القدس العربي
السبت 17/12/2016
خضعت حلب في الآونة الأخيرة إلى عدوان همجي منظّم ـ ضدّ البشر والحجر والزرع والضرع، سيان ـ وحرب تدمير شاملة، وتطهير وتهجير؛ اشتركت في إدارته وتنفيذه قوى عظمى دولية (روسيا)، وأخرى إقليمية (إيران)، وميليشيات مذهبية ("حزب الله" وعشرات العصائب والألوية)، فضلاً عن بقايا ما تبقى من أجهزة النظام السوري وميليشياته. وهذا العدوان، في واحدة من سماته الكونية على الأقلّ، هو مثال جديد على عدد من الأمثولات العتيقة المتكررة، التي تصنع تاريخ النظام الدولي المعاصر، أو ذاك الحديث والحداثيّ بأسره لمن يشاء؛ وتنتج، وتعيد إنتاج، أخلاقياته ومعاييره وخطاباته وعلاماته.
ويكفي الآمل خيراً في هذا النظام أن يستعرض مظاهر الشدّ والجذب في أروقة الأمم المتحدة، واجهة ذلك النظام الرسمية؛ وفي عواصم عالمية ذات سلطة وقرار في تحريك النظام، مثل واشنطن وموسكو ولندن وباريس وبرلين. وفي المقابل، توفرت ردود أفعال مختلفة الطبيعة، في شوارع هذه العواصم وعلى مستوى تظاهرات الاحتجاج الشعبية ومنظمات المجتمع المدني؛ لا تذهب على نقيض حال الجمود والشلل التي عاشتها الحكومات، فحسب؛ بل تفضح، كما تكشف عورات، أكذوبة كبرى شاع استخدامها لدى القائلين بوجود، ثمّ إمكانية، إدامة هذا التكاذب المديد المفتوح، حول مسمى "المجتمع الدولي".
مصيبة هذا المسمى، الذي بدأ غائماً وغامضاً وهكذا يواصل البقاء، لا تقتصر على ارتداده إلى سلوك سابق مكرور أثبتت الوقائع إفلاسه وعواقبه الوخيمة فقط؛ بل، كذلك، في أنّ الارتداد ينطوي على الانحطاط أكثر فأكثر، نحو عواقب أشدّ أذى وأبعد أثراً. وفي الماضي كانت صيغة الـ"كليشيه" المعتادة، عند اندلاع حروب إقليمية، تبدأ من مطلب وقف إطلاق النار فوراً؛ إنْ لم يكن بدافع النفاق ورفع العتب، فعلى الأقلّ بغية إفساح المجال أمام القوى الكبرى المعنية ببعض أو جميع أطراف الاقتتال (وهي، دائماً وأبداً، معنية بالضرورة!) كي تتساوم وتتفاهم وتتفق.
وهذه المرّة، لأنها تشارك في الحرب ضد حلب وفي تدميرها، ترفض موسكو وقف إطلاق النار، وتساندها الصين في الرفض، وتستخدم العاصمتان حقّ النقض لتعطيل قرار، هزيل أصلاً؛ وفي المقابل، لا تُسمع من أمريكا، القوّة الكونية الأولى، سوى تلك الجعجعة الأثيرة، التي بلا طحن. وكان في وسع المندوب الروسي لدى مجلس الأمن أن يذكّر زميلته المندوبة الأمريكية بتاريخ واشنطن الطويل في استخدام الـ"فيتو" إياه، ضدّ وقف إطلاق النار خلال العدوان الإسرائيلي في جنوب لبنان، عام 2006، مثلاً. كان في وسعه، أيضاً، أن يذكّر زميله المندوب البريطاني بما فعلت بلاد الأخير في المثال إياه؛ حين جارى توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا يومذاك، رغبة واشنطن في إسقاط واجب الحدّ الأدنى في الحروب، والمطالبة بوقف إطلاق النار.
من جانب آخر، أثبت الموقف من العدوان البربري على حلب أنّ أوروبا العملاقة الموحدة، القارّة العجوز العريقة وأمّ أنظمة الاستعمار وفلسفات الأنوار وأنظمة لديمقراطية في آن معاً؛ عاجزة تماماً عن اعتماد سياسة خارجية مستقلة قيد أنملة عن تلك السياسات التي تعتمدها الولايات المتحدة، مؤقتاً أو على المدى الستراتيجي، إزاء سلسلة طويلة من الملفات الدولية الشائكة، وعلى رأسها قضايا الشرق الأوسط بالطبع. الردّة، مع ذلك، أكثر فضائحية في مواقف القادة الأوروبيين، الذين أعادوا تذكيرنا بآخر مناسبة مماثلة لإعادة إنتاج المنتج القديم، في هيئة انحطاط أشدّ فضحاً لمسمّى "المجتمع الدولي".
وكيف تُطوى من الذاكرة المعاصرة، أو من أرشيف مسمّى "المجتمع المدني" ذاته، تلك الوقفة "الحربجية"، أي المناهضة لمفهوم وقف إطلاق النار، التي أتحفنا بها رهط من أبرز قيادات الديمقراطيات الأوروبية (سبعة بالتمام والكمال: الإسباني خوزيه ماريا أثنار، البرتغالي خوزيه مانويل باروسو، الإيطالي سيلفيو برلسكوني، البريطاني توني بلير، التشيكي فاكلاف هافل، الهنغاري بيتر ميجيساي، البولوني لاشيك ميللر، والدانمركي أندرس راسموسن)؛ حين اختاروا صحيفة "التايمز" البريطانية لتوقيع بيان مشترك يدعو إلى الحرب ضدّ العراق. وكيف يُنسى أنّ هؤلاء تجردوا، علانية، من الضمير، ومارسوا قلّة احترام الذات، واحتقار الشعوب، وغضّ البصر عن عذابات البشرية؟
ومن جانب ثالث، في وسع المندوب الروسي أن يردّ على الاتهام الموجه إلى بلاده ـ في أنها تستخدم مأساة حلب لإعادة تأكيد جبروتها العسكري وتصفية حساب ملفات أخرى مثل أوكرانيا وأسعار برميل النفط والعقوبات الاقتصادية… ـ عن طريق تنشيط الذاكرة العالمية، والتذكير بـ"فلسفة" الولايات المتحدة في غزو العراق. وكان وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، دونالد رمسفيلد، قد اعتبر الحرب على العراق فرصة "لاستئصال ازدواجية الموقف الأمريكي من استخدام القوّة، والتي خلّفتها فييتنام"؛ فضلاً عن تخليص البنتاغون من عقدة "الضربات الصاروخية" التي طبعت الحقبة الكلنتونية (والتي سخر منها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن نفسه). من جانبه كان ديك شيني، نائب الرئيس الأمريكي يومذاك، قد رأى في الحرب على العراق فرصة أيضاً، ولكن لتخليص الوجدان الأمريكي من "أشباح الستينيات: فقدان السلطة الأخلاقية والإحساس بأنّ أمريكا تضمحلّ أو تسير في الطريق الخطأ".
ومن جانب رابع، يستطيع المندوب الروسي تذكير زميلته الأمريكية بالأرقام التي تقول إن أمريكا تنفق على السلاح والجيوش والقضايا الأخرى الدائرة حول فكرة "الأمن القومي" ما يزيد على مجموع ما ينفقه العالم بأسره. وفي المشهد ذاته، قبل نشر عشرات الآلاف من القوّات الأمريكية في مشروع غزو العراق أو بعده؛ كان أكثر من نصف مليون عسكري أمريكي يتمركزون في 395 قاعدة عسكرية كبيرة، ومئات القواعد الثانوية الأصغر، في 35 بلداً أجنبياً. ومنذ الحرب العالمية الثانية وحتى عشية اندلاع حرب الخليج الثانية، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 200 مليار دولار لتدريب وإعداد وتسليح جيوش أجنبية في أكثر من 80 بلداً، أسفرت عن أكثر من 75 انقلاباً عسكرياً، وعشرات الحروب الأهلية التي تسببت في مئات الآلاف من الضحايا.
أخيراً، وفي غمرة ذلك كله، كانت تجري عمليات دائمة من "تصنيع" العدو وتأثيمه إلى المدى الأقصى الذي يبرّر التدخل العسكري، والغزو، والانقلاب، والحرب الأهلية. كانت هذه هي الحال مع سوريا المعاصرة، بعد بناما، مصر، البيرو، البرتغال، نيكاراغوا، التشيلي، جامايكا، اليونان، الدومينيكان، كوبا، فييتنام، كوريا الشمالية، لبنان، العراق وليبيا… وليس مهماً هنا أن يكون العدو إصلاحياً، أو ديمقراطياً، أو اشتراكياً، أو شيوعياً، أو إسلامياً. والولايات المتحدة، آنذاك كما اليوم أيضاً، تنفرد وحدها بموقع رائدة "العالم الحرّ" بامتياز، التي تفرض الثقة أو تحجبها، وتوافق أو لا توافق على هذه أو تلك من التعاقدات الدولية، بصرف النظر عمّن يبرمها.
لكن أجهزتها الأمنية ــ وتحت ستار "الأمن القومي" الأمريكي دائماً ــ شاركت في إسقاط أنظمة ديمقراطية أو إصلاحية منتخبة في غواتيمالا، غويانا، الدومينيكان، البرازيل، تشيلي، الأرجنتين، اليونان، أندونيسيا، بوليفيا، وهاييتي. كذلك شاركت الأجهزة ذاتها في مؤامرات خفية، أو عن طريق استخدام المرتزقة، ضدّ حكومات شرعية في كوبا، أنغولا، الموزامبيق، إثيوبيا، كمبوديا، تيمور الشرقية، الصحراء الغربية، سوريا، مصر، لبنان، البيرو، زائير، جنوب اليمن (سابقاً)، وجزر فيجي… وليس الحضور الأمريكي في سوريا، المتضارب بين خيارات وزارة الدفاع والمخابرات المركزية؛ وبين ثلاث مقاربات للمسألة الكردية، في سوريا والعراق وتركيا؛ سوى الوجهة الأحدث لتقلبات ومتغيرات ذلك الستار العتيق: "الأمن القومي".
وهكذا فإنّ حلب اليوم تعيد التذكير بالأمس القريب، مثل البعيد في الواقع، لأنّ سياسات الإجرام والتواطؤ والنفاق تُدار بلا توقف، في إيقاعات جهنمية، داخل مطاحن مسمّى "المجتمع الدولي"؛ حيث الجعجعة بلا طحن، دائماً.
 
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس