الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حلب: مأساة أمة تبحث عن ذاتها

حلب: مأساة أمة تبحث عن ذاتها

18.12.2016
د. طارق ليساوي


القدس العربي
السبت 17/12/2016
بينما يحتفل حوالي مليار ونصف المليار مسلم بذكرى مولد خاتم الأنبياء والرسل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، تعيش حلب تحت وابل قصف الطيران والمدافع من كل الجهات ومن كل الأطراف. فمشهد الدماء والمهجرين يؤلم كل قلب لازال يحمل ولو ذرة من الإنسانية، فهذه المشاهد المروعة وهؤلاء الصبية والنساء والشيوخ العزل المستضعفون ما ذنبهم وما شأنهم بصراع القوى وتشابك المصالح الدولية والحسابات الجيو استراتيجية بين الدول الإقليمية والعالمية ؟
مبدئيا، ما يحدث في حلب من قتل وتدمير ليس بجديد على هذه المدينة المجاهدة، فعبر التاريخ تعرضت حلب لهجمات الغزاة فدمرت حلب أكثر من مرة لكنها قامت من جديد واستمرت ببنما انقطع نسل وأثر الغزاة والطغاة المتجبرين، فحلب حسب منظمة اليونيسكو هي ثاني أقدم مدينة مأهولة في العالم ويعود تاريخ نشأتها إلى العام 12200 ق.م، وقد عاصرت العديد من المدن القديمة مثل روما القديمة وبابل ودمشق…ومن تم فكانت محل نزاع بين العديد من القوى الإقليمية أنذاك، ويكفي سرد كرنولوجي لأهم الغزوات التي تعرضت لها المدينة لفهم أن ما يحدث اليوم هو امتداد للأمس.
ففي نهايات القرن 9 ق.م تعرضت المدينة لهجمات الإمبراطورية الأشورية، ثم انتقلت فيما بعد لسيطرة المملكة البابلية الثانية والإمبراطورية الإخمينية الفارسية. وفي العام 333 ق.م استولى عليها الإسكندر المقدوني لتصبح جزءا من الإمبراطورية الهيلينية طيلة الفترة مابين 301-276 ق.م، ثم انتقلت بعد هذه الفترة إلى سيطرة الرومان واستمرت تحث الحكم الروماني إلى حين مجيء الفتح الإسلامي سنة 637م.
ومن باب أنطاكية استقبلت مدينة حلب الجيوش الإسلامية بقيادة "خالد بن الوليد" لتدخل المدينة في دين الإسلام، وتصبح قطبا مركزيا في الدولة الإسلامية فغيرت المدينة دينها ولغتها السريانية للتكلم بلغة القرآن الكريم.
ولم تنته محن المدينة مع الغزاة الأجانب ففي عام 353 هجري تعرضت للحصار الخانق والتدمير والاحتلال من قبل الرومان لكن تم تحرير المدينة. ومع انطلاق الحملات الصليبية عام 1108 تعرضت المدينة للعديد من الهجمات الصليبية واستمر مسار ضياع ونكوص المدينة إلى حين صعود نجم القائد المسلم الأمير "عماد الدين" وابنه "نور الدين زنكي"، فأصبحت في عهدهما المدينة مركزا للمقاومة الإسلامية ضد الفرنجة. وفي عام 1138كان التدمير على إثر زلزال عنيف ضرب المدينة فدمرها تدميرا كاملا وقتل نحو 230 ألف حلبي، لكن عمد القائد نور الدين زنكي على إعادة إعمار المدينة، وأخذت شكلها النهائي الذي استمر إلى عصرنا هذا قبل أن يتم تدميرها من قبل مغول العصر الحديث
فما أشبه اليوم بالأمس.. !فاليوم تتعرض حلب مجددا لدمار وإبادة جماعية تحت أنظار الجميع عربا وعجما مسلمين ونصارى، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا… العالم كله اليوم يشاهد تدمير حلب بالبث المباشر، لا ننكر أن بعض الهيئات والجماعات والأحرار من الرجال والنساء خرجوا في العديد من بلدان العالم للتنديد بهذا العنف والهمجية وسفك الدماء المبالغ فيه. لكن إلى حد الساعة لم نسمع برد فعل رسمي صارم من قبل الحكام العرب الذين باعوا الشعب الحلبي بأبخس الأثمان، بعدما قدموا له في بداية الحراك الشعبي السوري الوعود والتعهدات بإسقاط رأس بشار الأسد، أما عن المنتظم الدولي فأكاد أجزم أن أغلبية البلدان الغربية لا يهمها الدم السوري مادام أن الدم لم يصل إلى حدودها
نؤكد تعاطفنا وتضامننا مع إخوتنا في حلب ونحمل مسؤولية الدم الحلبي لكل حكام العرب بدون استثناء، فهم من فتحوا الباب للتدخل الروسي والأمريكي والفرنسي والإيراني..فالبلدان العربية أصبحت مستباحة للجميع ورقعة شطرنج في أيدي القوى الدولية… فقبل حلب دمرت بيروت وبغداد وطرابلس ومقديشو وغزة..فمن يتحمل مسؤولية هذا الدمار فإذا كانت اليوم طائرات روسيا تدمر حلب، فطيران أمريكا بالأمس القريب دمر مدينة بغداد
فالأدوار تتغير تبعا للظروف، فاليوم روسيا تتصدر المشهد في سوريا، كما تصدرت أمريكا المشهد بالأمس في العراق، الغريب في الأمر أن هذه المدن المدمرة هي عواصم للحضارة الإنسانية والإسلامية فالحرب بدون شك هي حرب حضارية بامتياز، والمستهدف الأول هو الإسلام والمسلمين. قد يقول البعض أن الغرب يحارب الإرهاب والجماعات المتطرفة، لكن من صنع الإرهاب والتطرف؟ أليس هذا التقتيل والتشريد للعزل هو قمة الإرهاب؟ ألم يتم تفريخ الجماعات المتطرفة في العديد من الأقطار لمواجهة الإسلام المعتدل أو ما يسمى بالإسلام السياسي ؟ ألم يتم تجنيد العديد من الشباب المسلم للقتال في أفغانستان ضد الغزو السوفييتي وتم ذلك بتخطيط من المخابرات الأمريكية وبتمويل من بلدان الخليج ؟ ألم تتم الإطاحة بأنظمة منتخبة ديمقراطيا في الجزائر وفلسطين ومصر وتونس، لا لسبب إلا لميولها الإسلامية، مع أنها بعيدة كل البعد عن التطرف أو العنف. فالإرهاب صناعة غربية وكلاؤها الحكام العرب، صناعة مقيتة تدفع الشعوب العربية والإسلامية ثمنها دما وفقرا وتجويعا
إن ما يحدث على أرض الشام عامة وحلب بخاصة، يصعب وضعه تحث أي توصيف فهو عملية إبادة جماعية وتدمير مقصود للبلاد والعباد، فهذا الوضع لم يعد معه من المجدي السؤال عن من الجاني ومن المجني عليه، صحيح أن بداية الأزمة كانت عبارة عن حراك شعبي مدني سلمي للمطالبة بالحريات المدنية والسياسية،لكن للأسف تعنت نظام بشار الأسد وتدخل أيادي أجنبية لها حساباتها الخاصة أدخل سوريا في شلال دم نعرف بدايته لكن نهايته لا يعلمها إلا الله.
الواقع أن "الظاهرة الأسدية" تشمل كل الحكام العرب الذين لا يترددون في سفك الدماء وتشريد شعوبهم مقابل تمسكهم بالمناصب والمكاسب.
فأي مكاسب ومناصب في ظل هذا الدمار فشوارع حلب أصبحت دما، ومدينة حلب في حاجة إلى قرن من الزمن لتستعيد عافيتها، والأمر ينطبق على ليبيا والعراق واليمن. فالغرب ومعه الحكام العرب يجمعهم تحالف مقدس ضد الشعوب العربية والإسلامية، فمصالحهم تقاطعت فكلاهما ضد عملية دمقرطة هذه المنطقة من العالم، فمخاوفهم مشتركة لأن استعادة الشعوب العربية لإرادتها كفيل بتغيير وجه المنطقة والعالم ككل. فقبل هذا التاريخ بحوالي 1400 سنة استطاع النبي محمد عليه الصلاة والسلام أن يخرج شعوب هذه المنطقة من ظلمات الجهل والتبعية والتقاتل إلى نور الإسلام، فمن دون أدنى شك أن عودة شعوب المنطقة إلى هدي النبي محمد نبي الرحمة وعودتها إلى الوحدة والتكتل، يشكل حلم اغلب شعوب المنطقة. فعملية التدمير والتقتيل ماهي إلا حرب ضد الإسلام وضد مصالح وتطلعات الأمة.
فالتحدي في نظري ينطلق بداية من تحصين الإسلام، وذلك بإعادة الاعتبار للعلم والمعرفة، فالجهل يقود حتما إلى الفهم المغلوط للإسلام، فالإسلام دين يقوم على العلم لا الجهل، فالعقول المتعلمة المتصلة بدينها وحضارتها الإسلامية لن تقود إلا للحرية والاعتدال، فالشعوب المكبلة بالجهل والاستبداد والفاقدة لإرادتها لن تبني تقدما ولن تشيد حضارة، فعلى الرغم من حالة سفك الدماء ودعم التيارات المتطرفة، بغرض إخافة الشعوب الإسلامية ودفعها للقبول بالتبعية والاستبداد، فانه لا مفر من التحرر والوقوف في وجه الحكم الاستبدادي، فالبديل هو الحرية والديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها..لذلك فإن مأساة حلب هي مأساة كل الأمة العربية والإسلامية التي تبحث عن ذاتها
 
إعلامي وأكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي