الرئيسة \  واحة اللقاء  \  النائحون على حلب و"الناطرون" مصير إدلب إلى أين تتجه سوريا الآن؟

النائحون على حلب و"الناطرون" مصير إدلب إلى أين تتجه سوريا الآن؟

25.12.2016
أحمد عبد اللاه


القدس العربي
السبت 24/12/2016
أصبح مهم للغاية أن تُعاد قراءة مسار الأحداث بشفافية عالية، وأن تُقيم الأمور بشكل موضوعي، هذا ما يتردد الآن في أحاديث ما بعد الكارثة، التي أعادت الأسئلة الكبيرة إلى الواجهة، لماذا سمحت الثورة السورية أن تُجر إلى مربعات العنف هذه؟
وكيف توافدت إلى أرض سوريا جماعات مختلفة الأوجه والتوجهات؟ وكيف ساد الخطاب الديني الأكثر حساسية على الخطاب الوطني المدني الذي يفهمه العالم؟ هل نجح النظام وحده في استدراج جماهير سوريا الثائرة إلى هذه الحفرة المظلمة؟ أم أن ظاهرة الجهاد وخطاب المنابر فرضت حالها على بعض مسارات "الربيع العربي" ولونتها بإرادات مختلفة فتبعثرت وتحولت إلى حالات اقتتال داخلي؟ وقبل كل هذا أعطت للعالم حججا كثيرة، أوضحها تلك التي تشير إلى أن مآل الثورات غامض وشديد الخطورة، وربما أخطر من الأنظمة المتوحشة، في لحظة الدفاع عن بقائها، لأن الأخيرة لها وجه واحد وعنوان واحد، وقد تأتي وحوش بأوجه مختلفة تتصارع فيما بينها وتقسم الأرض إلى إمارات متطرفة وتشكل قاعدة معادية للسلام والأمن العالميين.
لم يعجز أعداء التغيير في سوريا أن يختاروا استراتيجية رادعة بصورة عنيفة للغاية لخوض، ما اعتبروها، "الحرب على الإرهاب"، وأن يجدوا السبيل اللازم لمخاطبة العالم بأن السلطة الحالية، مهما اقترفت من جرائم، أهون من الخطر الأكبر المحتمل الغامض في حال سقطت الدولة وتحولت سوريا إلى بقع متفجرة، وأرض للجهاد والحروب الدينية اللانهائية.
حلب فرزت نماذج مختلفة من ردود الأفعال العربية والعالمية، لكن العالم وبصورة خاصة سيظل يتذكر وجه كيري "الوزير النيجاتيف"، الذي درج على أن يعيد صياغة أحاديثه للإعلام بالقالب الجامد الممل نفسه، كمن يرفع العتب عن دولة عظمى، وقفت بإرادتها ضائعة مهزوزة في أخطر مشهدية دموية عرفها الشرق الأوسط. الوزير الأمريكي المسافر خلف رياح الخصم سيرغي لافروف الذي بدا في كل مؤتمراته الصحافية محافظا على نبرةٍ جادة عكست تصاعد الموقف الروسي الذي ما أن بلغ سقفا غير مسبوق في تدخلاته الخارجية، حتى توارت ملامح الوقار "الكيرية" ثم اختفت بصورة نهائية.
وعشية سقوط حلب ظهرت تركيا أيضاً بجانب روسيا في الوقت "بدل الضائع"، تنسقان الخروج العظيم لشعب حلب الشرقية، وتضاءلت عند ذلك الأردوغانية الطافحة بالعزيمة والتوثب لدعم الثوار، بينما إيران مارست أدواراً حاسمة على الأرض، ولم تتموضع على الهوامش، فظهر قاسم سليماني، كذئب طليق، على شوارع حلب الخالية من السكان، ومن حوله مدينة أشباح خاوية على عروشها، لا شيء فيها سوى الدخان وصدى الأنين والصراخ النابت من بين مفاصل الأنقاض.
وفي رواية أخرى سوف تُحكى لاحقاً: سيجد المتابع العربي مشاهد فيها الكثير من الصراعات الداخلية التي عاشتها المدينة بين عدد من الفصائل والمنظمات والمجموعات التي استنفدت مسميات التاريخ الإسلامي، وربما تزاحمت وتقاتلت في اللحظات التي كانت حلب تُقصف من الجو والبحر والبر، وهذا سيجعل من حلب ملخصا داميا لهذا التاريخ المر، الذي تمر به المنطقة العربية. لكن المتابع الآن وفي المستقبل سيجد أيضاً صعوبة قصوى للتفتيش عن أدوار عربية لها أثر يُذكر في آخر المطاف، بعد أن كانت للعرب بداية متحفزة لحسم أمور سوريا بشكل سريع، دون حسابات حقيقية لمثل هذه التداعيات الكارثية، حتى إن أصبحت سوريا موزعة بين الموت والدمار والنزوح الجماعي والتشريد، انخفض سقف التاثير العروبي وهامت سوريا الجميلة على وجهها.
يجري الآن الترويج لمصطلح "ما بعد حلب"، والحقيقة أن إدلب هي ما بعد حلب، تنتظر مصيرا، ربما لا يختلف كثيراً إن لم تكن هناك جهود استباقية وتعاون إقليمي ودولي على "ترشيد الكارثة"، إن صح التعبير، فلا أحد سيفهم إلى أين سيُهجر شعبها والشعب المهجّر إليها لتصبح مصائبهم مضاعفة، وهل العالم يقوى مرة ثانية على استيعاب مشاهد إدلبية أكثر رعباً لسكان تحت الأنقاض؟
المعارضة السورية عليها وحدها أن تعيد قراءة الأحداث، وأن تفرز بين ما يخدم قضية سوريا ومستقبلها وما يزيد متاعبها وأزماتها وربما يقود إلى كوارث أخرى، وعليها أن تجعل المعارضة السورية سورية المحتوى والهدف، وأن يفهم العالم أنها معارضة وطنية تهدف إلى بناء دولة مدنية حديثة، كاستحقاق وثمن لكل هذه الخسائر البشرية الكبيرة، وألا تقبل في صفوفها من يحملون أجندات متطرفة أو من أتوا من خارج الحدود، مثلما عليها أن تتحدث بلغة عصرية يفهمها العالم، وقبل كل ذلك أن تتحد المعارضة حول برنامج حقيقي للتغيير، وأن تتعرف إلى مقدراتها ومراكز قوتها لتضع على ضوء ذلك تعريفا عقلانيا لمسار سوريا ووجهتها.
لم تعد سوريا تحتمل التوظيفات الطائفية واستجلاب العالم لاقتسام دمها وحياتها كي تُرضي كل أطراف الدنيا وتعطي كل جهة جزءا من لحمها حتى تتصالح الأمم وتتفق بأن سوريا تستحق الحياة بعد ان يُروى عطشهم من دمائها.
حلب مدينة التاريخ والتعايش العرقي والديني والطائفي، وسيدة الأزمنة القديمة والحديثة، خرجت من تحت أنقاضها معفرة بالتراب لتعلن أن كل دروب الموت في هذا التاريخ المظلم قد تقاطعت على محيط قلعتها وفي أزقتها القديمة وأسواقها وميادينها وشرفاتها و"أبراج حمامها"، فلم تعد "كل دروب الحب توصل إلى حلب"، ولا وقت للشهباء أن تتذكر ما قاله فيها أبو العلا وأبو فراس ونزار قباني، بعد أن توقف سحر المواويل الحلبية وانثال الغبار على كمنجات الليل السابح فيها.
هي لحظة أشد إيلاماً في تاريخ الأزمات التي عرفتها المنطقة وهي لحظة مأساة عظيمة لسوريا الجميلة قلب الشرق المنطفئ