الرئيسة \  واحة اللقاء  \  القضية واللصوص

القضية واللصوص

10.01.2018
الياس خوري


القدس العربي
الثلاثاء 9/1/2018
لم أستسغ يوما تعبير "فلسطين المغتصبة" الشائع في الكتابة العربية، لما يحمله من ذكورية فجّة، ومن استعارة جنسية تجعل من فلسطين قضية مرتبطة بمفهوم معيّن للشرف الذي يتمحور حول جسد المرأة المُنتهَك. ولقد استفزني تعبير جديد حاول الإسلاميون فرضه في الآونة الأخيرة عبر تسمية المستعمرات الاستيطانية الإسرائيلية في الضفة الغربية "المغتصبات"، وهو تعبير قميء وفج، يسعى إلى تشويه اللغة الحديثة عبر تفذلك لغوي ينسى أو يجهل أن معاني الكلمات تتغير مع الزمن.
كما أن تعبير "الأرض السليبة"، ليس دقيقا هو الآخر، فالحركة الصهيونية لم تسرق الأرض بل احتلتها بالقوة العارية، وهي لا تتصرف كلص يتسلل في الظلام، انها آلة عسكرية متوحشة تستند إلى منطقين: منطق كولونيالي ومنطق ديني اسطوري، وهي تستعمر اليوم كل فلسطين وتضطهد شعبها وتمارس ضده تمييزا عنصريا مكشوفا لا لبس فيه.
وإذا كان هناك من سرقة موصوفة، فهي سرقة القضية عبر تحويلها إلى قناع للأنظمة تحجب بها قمعها الوحشي للشعوب، جاعلة من القضية شعارا ومبررا للقمع.
هنا يكمن السلب الحقيقي، وتصير القضية سليبة ومرتهنة.
والحق يقال فإن الثورة الفلسطينية خاضت الكثير من المعارك المُكلفة والدامية من أجل الحفاظ على استقلاليتها. وقد فات الكثير من القوميين دلالات شعار الاستقلالية هذا، فنعتوه بالانعزال، وخاضوا معارك كلامية ضد القرار الوطني الفلسطيني المستقل، الذي لم يكن سوى الوسيلة الوحيدة لحماية القضية من لصوص الأنظمة الذين كانت ألسنتهم مع فلسطين وسيوفهم عليها. وللأسف فإن مرحلة انحطاط الحركة الوطنية الفلسطينية بعد هزيمة الانتفاضة الثانية وتحول السلطة إلى اداة للتنسيق الأمني مع الاحتلال، سمح لأنظمة القمع وملحقاتها بالتطاول على فلسطين ومحاولة سرقة قضيتها من جديد، كما سمح لأنظمة المحور السعودي بمحاولة بيع القضية وكأن فلسطين صارت ساحة لهؤلاء واولئك.
لصوص القضية من جانب واللص الامريكي من جانب آخر.
لصوص القضية يدّعون دفاعا عن فلسطين، وهم يُغرقون المنطقة بالدم والوحشية والتفتت الطائفي، واللص الأمريكي يدّعي الدفاع عن الديمقراطية بينما يقوم بحملة منظمة ضد الإعلام في بلاده، ويقود صليبية صهيونية جديدة من أجل شرعنة الاحتلال الاستعماري لفلسطين.
مجمع اللصوص رغم تناقضاته وصراعاته مُجمع على مسألة واحدة، هي منع الشعوب العربية من الانعتاق من الاستبداد والفقر من جهة، ووأد فلسطين من جهة ثانية.
وهذا ما شهدناه خلال الانتفاضات العربية، وتقدّم ثورة الشعب السوري نموذجا واضحا لتحالف موضوعي نشأ بين الأعداء الإقليميين والدوليين في صراعاتهم على سوريا، حيث كانت نقطة اللقاء العميقة بينهم هي تحطيم حلم الحرية في عيون السوريات والسوريين. فمن التدخل الايراني بأذرعه المختلفة وعلى رأسها حزب الله إلى الطائرات الروسية، ومن التدخل الخليجي الذي أعطى السيطرة للأصوليين الى التدخل التركي، شهدت سوريا مجزرتين كبريين: مجزرة ضد الشعب المطالب بحريته وكرامته، ومجزرة اساءت وشوهت فكرة مقاومة إسرائيل، قبل أن تحول فكرة الحرية والديموقراطية إلى ممسحة.
أما فلسطين فحكايتها هي مرآة العجز والاستبداد والخيانات. كل الأنظمة تاجرت بفلسطين بطرائق مختلفة لكنها كانت مُجمعة على أمرين: اضطهاد الشعب الفلسطيني ومنع فلسطين من الوجود.
حكاية فلسطين مع الأنظمة تستحق أن تروى، ولعل حكاية الفلسطينيين في لبنان مع النظام الاستبدادي في سوريا تقدم نموذجا واضحا للانفصام بل التناقض بين الأقوال والأفعال، من مجزرة تل الزعتر إلى الاعتقالات والتصفيات الجسدية إلى حرب المخيمات وحصارها، وقد تم كل ذلك باسم فلسطين وتحت شعارات وطنية مخادعة .
النموذج السوري ليس فريدا، بل هو النسخة الأكثر فجاجة لمحاولات التطويع وفرض التبعية بهدف اخراج فلسطين من المعادلة. من ليبيا القذافي الى عراق صدام حسين الى الهاشميين الى النظام المصري الى آخره
ولعل اختفاء فلسطين بعد حرب النكبة وضم الضفة الى الأردن والحاق غزة بمصر، كان المؤشر الأكبر على أن النظام العربي قام بانجاز المهمة التي عجزت إسرائيل عن الوصول إليها وهي الغاء الوجود الفلسطيني.
الاستثناء الوحيد على هذه الظاهرة العامة كانت الصحوة الناصرية التي قادت إلى تأسيس منظمة التحرير عام 1964، وكانت تعبيرا عن حاجة ناصر الى الصوت الفلسطيني في صراعاته الإقليمية، غير أن المنظمة لم تتحول إلى حقيقة سياسية إلا عام 1968، حين تسلم الفدائيون قيادتها.
حكاية فلسطين مع العجز والتواطوء والاستبداد في العالم العربي يمكن تلخيصها بكلمة واحدة هي الصراع على الوجود.
هكذا يجب أن نفهم المسألة، واذا كانت القيادة الوطنية الفلسطينية مشلولة اليوم، بسبب انهيار رهاناتها الخرقاء على التسوية، فهذا لا يغير شيئا في حقيقة المسألة. ففلسطين ليست بالنسبة للمستبدين العرب والإقليميين سوى حجة واداة من أجل تأبيد الاستبداد واعطائه شرعية وطنية لا يستحقها.
فلسطين قضية حرية، والحرية لا تتجزأ.
لا تخطئوا فنضال الحرية واحد من سوريا إلى فلسطين، صرخة واحدة ضد العسف والظلم والقمع. واذا كان القمع ضد الشعب الفلسطيني يتخذ شكلا مقنّعا بالقوانين فهو لا يختلف في الجوهر عن القمع ضد السوريين والمصريين والعراقيين. قمع المافيا والعسكريتاريا يتخذ شكلا همجيا في الشكل والمضمون، أما قمع الدولة الصهيونية فهو قمع بربري يتخذ شكلا قانونيا عنصريا يبرر التمييز العنصري ويؤسس للابادة الثقافية والسياسية.
السوريون في مأساتهم والفلسطينيون في مقاومتهم والايرانيون في مواجهتهم للقمع والمصريون والسعوديون والليبيون والعراقيون… يخوضون معارك قاسية، لكن معركتهم هي واحدة وعدوهم واحد.
ان نجاح الأنطمة في حجب هذه الحقيقة، أدخل الثقافة العربية في مصيدة من المتاهات وجعلها غريبة عن نفسها، بعض المثقفين والصحافيين سقطوا في شراك أنظمة الممانعة، وصارت انتفاضات الشعوب عدوهم الأول، بحجة مقاومة أمريكا وإسرائيل وبذا صاروا أبواقا للاستبداد، وبعضهم الآخر جعلته كراهيته لأنظمة الملالي ينسى أن الاستبداد هو في احد وجوهه جزء من منظومة الهيمنة الإسرائيلية. أما جنون بعض الأنظمة وهلعها فقد قاداها إلى الارتماء في الحضن الإسرائيلي الترامبي، مدخلة المشرق العربي في أتون حرب طائفية طاحنة لن يكون العرب سوى الخاسر الأكبر فيها.
أمام أبصارنا المُثقلة بالموت والدمار تتم سرقة قضايانا، ونشهد كيف يحاول المستبدون تفتيت المنطقة، ونغرق في أصداء معارك وهمية بدلا من أن نعيد الربط بين الحرية والتحرر ونرى في مآسينا نقطة توحدنا ضد الاستبداد والاحتلالات التي تعبث ببلادنا.