الرئيسة \  واحة اللقاء  \  السويداء وخط الاشتباك الإقليمي

السويداء وخط الاشتباك الإقليمي

29.07.2018
مؤنس حامد


القدس العربي
السبت 28/7/2018
لم يستطع المصطلح الموازي للحدث السوري في كثير من الحالات أن يجاري التحولات والوقائع، وقد يكون من بين مظاهر هذا القصور تجاهل الانقسام الحاد والعميق في مؤسستي النظام العسكرية والأمنية وامتداداتهما الميليشياوية بين قوتين اقتسمتا السيطرة عليهما منذ خريف العام 2015؛ حيث (الانتداب) الروسي يحتكر صناعة القرار السياسي، ويحاول أن يبدو صاحب الكلمة الفصل في القرارين العسكري والأمني، وعلى الجانب الآخر نفوذ إيراني متزايد في المستوى العميق والتفصيلي المتعلق بقوات النخبة العسكرية والأجهزة الأمنية المرتبطة بها، وكذلك الميليشيات المحلية شبه الرسمية.
تشير خريطة النفوذ الحيوي للقوى الإقليمية جنوب سوريا إلى طرفين إقليميين متصارعين هما إيران وإسرائيل، إضافة إلى قوة (الانتداب) الروسي العالقة بينهما والتي ترغب بالوصول إلى حل وسط بين الخصمين؛ وهو ما عبر عنه العرض الروسي بإبعاد الإيرانيين مسافة 100كم عن الجولان المحتل، مما يعني طرد هذا النفوذ من دمشق ذاتها وإبعاده إلى شرق مطار السين العسكري في البادية السورية. بمعنى آخر؛ أصبح نفوذ طهران في دمشق وفي كامل الجنوب على طاولة المفاوضات.
في سبيل التمهيد لمثل هذا الحل تدفع موسكو بمشروع مناطقي في الجنوب السوري (القنيطرة ـ درعا ـ السويداء) لتحقيق استقرار مؤقت يتم خلاله سحب السلاح وتنظيم الميليشيات ضمن ما بات يعرف بـ (الفيلق الخامس) ذي المرجعية الروسية. وهو ما يمكن أن يحقق لها سيطرة كبيرة على المستوى اللوجستي والعملاني، ويتيح لها فرصة لإحراج الشريك الإيراني وسحب أوراق قوته وأدواته وذريعة بقائه في الجنوب . لكن في المقابل، يبدو أن الجانب الروسي عاجز عن تنفيذ هذه الخطوة بسبب إعاقة إيران لها، لما تراه فيها من خطر يهدد نفوذها الحيوي. إذاً، ثمة شرخ لا يزال يتسع بين الروس والإيرانيين الذين لن يمنع خروجهم من الجنوب السوري سوى إفشال مشروع التنظيم العسكري والأمني الروسي.
بتاريخ 20/5/2018 انتقلت مجموعات داعش من جنوب دمشق إلى وعر شرقي السويداء بموجب اتفاق تحت رعاية روسية مباشرة، وكانت الأطراف المقابلة لداعش على طاولة المفاوضات هم ممثلو النظام بالإضافة إلى الإيرانيين وتنظيمات فلسطينية محلية في مخيم اليرموك. وهو ما يعني أن تعزيز قوة داعش شرق السويداء كان تحت العين الروسية وبموافقتها. ويعني أيضاً أن ثمة ترتيبات جمعت بين الإيرانيين وداعش خلال هذا الاتفاق. وقد أحاطت التوجيهات الروسية الاتفاق آنذاك بمزيد من التعتيم. بهذا انتقل 1600 مقاتلاً من داعش إلى شرق السويداء (حسب المرصد السوري) ليضاف هذا العدد إلى بضع مئات من مقاتلي التنظيم كانوا موزعين في مناطق مختلفة من الوعر.
لطالما كانت مجموعات داعش المتواجدة في مناطق جنوب دمشق موضع ريبة ـ حتى من قبل التنظيم الأم ـ وهذا ما دفع التنظيم في دير الزور إلى رفض انضمامها إليه عند افتتاح العملية التفاوضية تحت الرعاية الروسية أواخر شهر نيسان 2018. وثمة شواهد كثيرة في سيرة داعش جنوب دمشق تشير إلى علاقات متداخلة بمراكز قرار محسوبة على النظام السوري في دمشق (بجناحيه). لقد وفر مفاوضات خروج داعش من جنوب دمشق فرصة مؤاتية لاتصال نشط بين كل من الجانبين الروسي والإيراني مع قيادة التنظيم (أبو محمود الجولاني). أما علاقة تنظيم داعش بالجانب الإسرائيلي فهي علاقة مشوبة بكثير من الغموض، لكن لا يوجد سبب لنفيها، لاسيّما أن مجاورة التنظيم في حوض اليرموك للحدود مع إسرائيل قائمة منذ أواخر عام 2014 وتتسم بنوع من الانضباط والتهدئة المتبادلة.
من نافل القول أن مبررات عملية داعش في السويداء خلال مرحلة انحسارها الحالية لا يمكن أن تكون مفهومة في إطار أي مشروع مستقبلي لها في الجنوب، لاسيّما وأن عدد مقاتليها الذي يقترب من 2000 مقاتل في وعر شرق السويداء واللجاة يقابله حوالي 30000 ألف حامل للسلاح من أبناء السويداء. ومن باب أولى محاولة فهم حركة مجموعات داعش شرق السويداء بوصفها أداة لمحرك دولي أو إقليمي، لاسيما وأنها مركب أمني بحكم طبيعتها، ومتعددة الوظائف بحكم تعدد مشغليها. ومن الصعوبة بمكان افتراض وجود مشغلين محليين إذ إن جميع الأطراف المحلية لا تعدو كونها أدوات فاقدة القرار. والحال هذه، من المفيد الإشارة إلى مبررات مفترضة لدى الأطراف صانعة القرار (روسيا ـ إيران ـ إسرائيل) لاستخدام داعش، ومصالح كل منها في تنفيذ مذبحة الأربعاء الأسود في السويداء.
ثمة شيء من عدم الثقة لدى سكان السويداء بقدرة الجانب الروسي على تنفيذ خطة تأمين شاملة ومناسبة في محافظتهم، وعلى الأغلب أن ذلك ناتج عن فهم جيد لدى القوى المحلية للمعادلة الأمنية في الجنوب، إضافة إلى ما يظهر على المبعوثين الروس من سوء تقدير كبير لحجم قوتهم الفعلي على الأرض وللحسابات الأمنية في السويداء ومحيطها. يضاف إلى ذلك رد الفعل المحلي الحازم على الاتهامات الروسية لبعض المجموعات المحلية المسلحة بالإرهاب، وهي اتهامات مبنية على سوء التقدير نفسه.
على خلفية كل ذلك، ظهر تيار واسع داخل السويداء يرفض تسليم السلاح وفقاً للمشروع الروسي. وكانت نتائج اجتماع الضباط الروس بوجهاء من السويداء يوم 18/7/2018 باعثاً لخيبة روسية من إمكان إتمام مشروع التنظيم العسكري وسحب سلاح المجموعات المحلية في السويداء بشكل سلس. قد تكون هذه الخيبة الروسية وراء محاولة مفترضة لزج السويداء في معركة عسكرية مرهقة تضطرها للبحث عن قوة تنظيم شاملة للقوى العسكرية فيها، وهو ما يمكن أن يفيد منه الجانب الروسي في ضم الميليشيات شبه الرسمية والأهلية إلى مظلة الفيلق الخامس، وسحب السلاح العشوائي المنتشر بكثافة.
في المقابل، يتحرك الجانب الإيراني بدأب على خط الميليشيا الأكبر في السويداء (الدفاع الوطني) عبر ذراعه (حزب الله) وذلك منذ انتقال داعش جنوب دمشق إلى شرق السويداء؛ حيث أصبح قرار حزب الله أساسياً في إدارة هذه الميليشيا. وقد أسفر هذا التدخل عن سحب القوى المحلية المنتشرة على حزام القرى الشرقية للمحافظة (الدياثة ـ الشبكي ـ طربا ـ الكسيب ـ تل بصير) قبل أسبوع واحد من هجوم داعش الأخير.
على الأغلب أن جمع السلاح وتنظيم الميليشيات شبه الرسمية ومن ثم ضمها للفيلق الخامس، كما تقتضي الخطة الروسية، ستكون له آثار متدحرجة تصل إلى إنهاء الوجود الإيراني في الجنوب. بهذا ستكون إيران هي الطرف الأكثر تضرراً من المشروع الروسي، وهذا ما يمكن أن يكون قد دفع الجانب الإيراني إلى إفشال المشروع الروسي عبر خلق الشعور بالخطر الوشيك لدى سكان السويداء، مما سيترتب عليه رفض الأهالي لمشروع سحب السلاح وتنظيمه تحت إدارة روسية. وهو ما سيبقي على قدرة التدخل الإيرانية في مجريات الجنوب، وسيقتل أساس فكرة السيطرة التي يفاوض الروس من خلالها الجانب الإسرائيلي.
في اتجاه ثالث، رفضت إسرائيل مؤخراً المقترح الروسي القاضي بإبعاد إيران عن حدودها لمسافة 100 كم، وظهر أن إسرائيل اتخذت بالفعل توجها حاسماً من الوجود الإيراني على كامل الأراضي السورية. وعلى الأغلب أن إسرائيل تطمح إلى تعزيز استقلالية نسبية في قرار مناطق الجنوب (بما فيه السويداء) عسكرياً وأمنياً، وهو ما يتعارض تماماً مع مشروع التنظيم الروسي الذي يمكن أن يحدّ من قدرتها على النفاذ إلى مجتمعات الجنوب على غرار رغبة خصمها الإيراني، لكنْ بأهداف معاكسة تماماً، حيث يحاول الجانب الإسرائيلي استخدام هذه الاستقلالية النسبية من أجل طرد النفوذ الإيراني من الجنوب السوري الذي يعتبره وسادة عازلة لحدوده الشمالية.
أضف إلى ذلك أن ثمة شيء من عدم الثقة الذي تبديه إسرائيل حيال قدرة الروس على تنفيذ وعودهم المتعلقة بطرد الوجود الإيراني، وكذلك شيء من اليقين بالتعنت والالتفاف الإيراني في مواجهة المطالب الروسية الإسرائيلية. ويبدو أن شكوك إسرائيل جزء من فهمها الجيد لتعقيد المسألة الأمنية في الجنوب، ولطبيعة السيطرة المركبة والمتادخلة للانتدابين، أو الاحتلالين، الروسي والإيراني.
إن فرصة استثمار تنظيم داعش شرق السويداء هي احتمال قائم لدى كل من الأطراف الثلاثة بناء على تعريف مصالحهم الحيوية؛ من خلق الحاجة للتنظيم لدى الروس إلى خلق الشعور بالخطر الوشيك لدى الإيرانيين وصولاً إلى خلق الاستقلالية النسبية وفق الرغبة الإسرائيلية.
إذاً، حدث هجوم داعش على سبع قرى مأهولة بالسكان المدنيين في أقصى ريف السويداء الشرقي، ونفذ خلالها التنظيم صبيحة يوم 25/7/2018 مجازر مروعة بحق السكان الآمنين، كما نفذ أربعة عمليات انتحارية وسط مدينة السويداء صباح اليوم نفسه. وبلغت حصيلة ضحايا هجوم التنظيم 246 شهيداً وأكثر من 170 جريحاً وسط تجاهل جناحي النظام وداعميهما، حيث ترك السكان المحليون يخوضون معركتهم وحدهم.
تظهر وسائل التواصل الاجتماعي عدم اتفاق على بعض من التفصيلات بين سكان السويداء خلال اليومين الماضيين، إلا إنها تظهر بالمقابل ما يشبه الرأي العام الذي يحمل (النظام؛ أي جناحاه مع داعميهما) مسؤولية نقل داعش إلى شرق السويداء والتسبب بمجزرة الأربعاء الأسود. كما تظهر تبدد الثقة بجميع القوى غير المحلية (نظام ـ روس ـ إيرانيون) وتؤكد على مبدأ الاعتماد على النفس والوحدة الداخلية بين سكان السويداء.
من جانب آخر، تصاعد الشعور بالخطر والحاجة للحماية بين السكان المحليين إلى أقصى درجاته، وهو ما يشير فعلاً إلى أن مسألة سحب السلاح قد أصبحت ضرباً من المستحيل، إذا لم تكن محاطة بكثير من التعقيدات التي لن يستطيع الجانب الروسي التصدي لها. كذلك فإن مساهمة القوى المحلية المختلطة (رجال دين مع مقاتلين غير متدينين) في مواجهة داعش أدت إلى انهيار الادعاء الروسي الذي يتهم بعض مجموعات رجال الدين الدروز بالإرهاب. وعلى العكس من التبسيطات المخلّة لدى البعض، تمخضت نتائج عملية داعش الأخيرة عن عودة شيئ معقول من الشرعية الشعبية للمجموعات والميليشيات المحلية داخل السويداء بعد أن كادت تفقدها نهائياً على خلفية انخراط معظمها في أنشطة ذات طابع ربحي ضمن دورة اقتصاد الحرب.
لقد أخذ المشروع الروسي بالتبدد خلال هذين اليومين، فيما تقدمت كل من إيران وإسرائيل خطوة إلى الأمام. وهو الأمر الذي يعبر فعلياً عن المأزق الروسي في معالجة ملف الجنوب، لاسيّما بعد الاتفاق الهش الذي عقده الروس في مدينة بصرى الشام مطلع شهر تموز/يوليو الحالي، وعرقلة تنفيذ بند عودة النازحين بسبب انفلات سلوك الفرقة الرابعة (الموالية للجناح الإيراني) وعدم قدرة الروس على ضبطها.
قد تكون أحداث الأربعاء الأسود في السويداء مؤشراً على احتدام الصراع بين إسرائيل وإيران اللتين يريد كل منهما الكعكة كاملة، وبقرار يبدو حاسماً من قبل كليهما. وعلى الأغلب أن السويداء التي تتوفر في محيطها الجغرافي أدوات مناسبة لتحريك هذا الملف (داعش شرق السويداء ـ داعش في اللجاة) هي الآن في جغرافيا مركز خط الاشتباك بين الطرفين الإقليميين القويين، وتحت نظر طرف دولي مربَك. وقد تكون صندوق رسائل بين الأطراف المتصارعة والمتنافسة خلال المرحلة المقبلة.
إن استمرار الدور الوظيفي لداعش وتكرار استخدامها في السويداء مرهون بحل معضلة النفوذ الإيراني في الجنوب. وريثما يتم حل تلك المعضلة من المفيد للسويداء أن تبقى على مسافة آمنة من الأطراف الثلاثة حتى لا تقع في براثن عدو إسرائيلي قديم جديد، وحتى لا تقع في حضن قوات الاحتلالين الروسي أو الإيراني خلافاً لتاريخها ولدورها الوطني المشرّف الطارد للاحتلالات.
 
٭ كاتب سوري