الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في هذا الخريف عاد الربيع

في هذا الخريف عاد الربيع

02.11.2019
رياض معسعس


القدس العربي
الخميس 31/10/2019
لم يخطر على بال محمد البوعزيزي البائع المتجول التونسي في سيدي بوزيد قبل أن يصب البنزين ويولع النار في جسده أنه سيولع العالم العربي بأكمله، بل وسيقلب الموازين، وتدخل دول كبرى في شؤون العرب، ويدب الهلع في أنظمة خشية على نفسها أن يصيبها ما أصاب زين العابدين بن علي الذي بدوره لم يكن يتوقع بعد ربع قرن من حكم تونس تقريبا أنه سيأتي يوم ويقتلعه عن كرسي الرئاسة بائع خضار اسودت الدنيا وما عليها في عينيه كملايين العرب في أقطار العرب المختلفة خلال ثلاثة أسابيع فقط من الاحتجاجات.
استخف وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط آنئذ باحتمال سريان العدوى الثوري إلى مصر فقال: "ده كلام فارغ". ولم ينه كلامه حتى خرج المصريون يهتفون: "التوانسة ولعوها". وعكس ما قاله أبو الغيط فقد سقط نظام حسني مبارك بأسرع مـما كان يتصـوره.
وكرت السبحة على ليبيا، فاليمن، فسوريا، وصار ما صار ودخلت شعوب هذه الدول في صراع مرير مع أنظمة لا تريد أن تسلم بالحكم حتى لو أفنت نصف شعوبها ودمرت ثلاثة أرباع البلاد ودعت قوى خارجية للتدخل لإنقاذها من شعوبها كما حصل في سوريا واليمن وليبيا.
وقد دخلت دول الربيع العربي بعد سقوط أنظمتها، كل حسب أوضاعه السياسية والاجتماعية، في صراعات بينية مريرة من جهة، ومع قوى خارجية استجلبت على عجل لإنقاذ أنظمة ديكتاتورية فيما سمي بالثورات المضادة. ومع هول الخسائر البشرية والعمرانية وتدخل دول كبرى ومتوسطة عالمية وإقليمية في نسيج الأنظمة المستجيرة ساد اعتقاد بأن الربيع العربي قد اندثر وأن الشعوب الأخرى لا ترغب في الدخول بتجارب مدمرة على نسق سوريا، واليمن، وليبيا. لكن مع قدوم هذا الخريف نرى اليوم سريان العدوى إلى دول أخرى كالسودان، والجزائر، والعراق، ولبنان، وعودة الاحتجاجات في مصر. ومن المؤكد لن تتوقف على حدود هذه الدول فقط فالعدوى تسري وتطرح أكثر من جهة أسئلة عدة عن سببية هذه العدوى المستشرية في جسد عالم عربي مريض وفي هذا الوقت، ولماذا لم تندلع هذه الثورات قبل هذا التاريخ، وهل إحراق شخص في مدينة نائية نفسه يمكن أن يولد هذا الانفجار الذي وصلت شظاياه وتناثرت في أركان الخريطة العربية الأربعة؟
في الواقع أن عملية انتحار البوعزيزي حرقا كانت شرارة في أكوام قش جاف كانت تنتظرها لأسباب عديدة:
العامل الديمغرافي: لقد شهد العالم العربي زيادات سكانية كبيرة خلال نصف القرن الماضي إذ تضاعف عدد السكان مرتين أو أكثر في بعض البلدان وهذه الزيادات السكانية جعلت نسبة الشباب في المجتمعات العربية كبيرة تصل بعض الأحيان إلى أكثر من ستين في المئة وهذه الطبقات الشابة طرحت نفسها بعد تحصيلها العلمي والعملي في سوق العمل الذي لم يستطع استيعابها بسبب سوء تخطيط الأنظمة التي لم توفر لها إمكانيات العمل في مشاريع تنموية تستوعبها ولم تتدارك انعكاسات هذه الزيادات وخطورة ردود فعلها وهي تجد نفسها عاطلة عن العمل ولا مكان لها سوى المقاهي، أو الانخراط في دهاليز وأقبية الممنوعات والمحظورات. كما دخل العالم في تطور كبير لوسائل الاتصال والتواصل فقلب الموازين التي كانت سائدة والتي تمكن الأنظمة الدكتاتورية من احتكار وسائل الإعلام ومراقبتها فكان الخطاب الإعلامي أحاديا ساقطا من الأعلى إلى الأسفل كسيف ديموقليدس المسلط على الرقاب.
لكن مع بروز الشبكة العنكبوتية كحاضنة لكل وسائل الإعلام وبروز وسائل التواصل الاجتماعي لم يعد بمقدور السلطات احتكار الإعلام لأن وسائل التواصل باتت عملية أفقية بين مختلف شرائح المجتمع وتوقف ديموقليدس عن التهديد بسيفه المسلط على الرقاب فهذه الوسائل منحت الشعوب حرية التعبير الالكتروني فباتت المواقع بؤرا ثورية تنادي بالثورة. ثم إن الشعوب العربية التي تعاني من الفقر والتهميش كانت تشهد بأن عمليات الفساد تتم على مرأى العين وسمع الأذن من قبل عائلات الحكام الأبديين ومن لف لفهم فخلفت أحقادا كبيرة مكتومة جاهزة للانفجار. ويزداد الطين بلة في بعض الدول التي تحكمها أقليات طائفية التي أحدثت شرخا شاقوليا في صلب المجتمع الواحد. ناهيك عن الشعوب التي ادخلتها أنظمتها في حروب لا تعنيها فأحرقت الأخضر واليابس وضحت بأعداد كبيرة من شبابها وانتهت بهزائم تجتر شعوبها مرارة نتائجها. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن قضية العرب المقدسة التي كانت مضغة في أفواه الأنظمة "الثورية الممانعة" والتي كانت تستخدمها كأفيون الصين لتنويم شعوبها وجعلها تدجن على آمال ووعود بتحرير الأراضي المحتلة اكتشفت هذه الشعوب زيف حكامها بعد أن اتضح أن جلهم كانوا يخطبون ود قادة الصهاينة سرا وعلانية، وأن الشعارات المزيفة لم تكن سوى أقراص مسكنة لآلام الهزائم المتكررة التي سببتها هذه الأنظمة ودفعت الشعوب ثمنها دما، ودموعا، وآلاما.
باختصار لقد باعوا القضية بثمن بخس، ومنهم من كرم المحتل لاحتلالها. ولم نتحدث عن الأزمات المزمنة التي تنتاب معظم هذه الدول: أزمة تعليم، أزمة مواصلات، أزمة صحة، أزمة سكن، وخاصة أزمة حرية حتى باتت هذه الدول كشركات إنتاج مآس وأحزان وآلام دفعت بشبابها لشق الفيافي، والصحاري، والوهاد، والنجاد، والبحار على قوارب مطاطية ليصبح الكثير منهم طعاما للأسماك الجائعة في البحر المتوسط، فكيف للربيع العربي أن لا يتمدد على الخارطة العربية من البوابة الشرقية إلى البوابة الغربية؟