الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في لبنان والعراق.. ثورة على نظام "المكونات"

في لبنان والعراق.. ثورة على نظام "المكونات"

02.11.2019
أحمد عيشة


سوريا تي في
الخميس 31/10/2019
ظهر مفهوم "المكونات" ضمن الخطاب السياسي بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 عندما دعا الحاكم العسكري بول بريمر إلى كتابة دستور جديد يؤسس لدولة في العراق قائمة على حفظ واحترام حقوق "مكوناته"، وذلك بعد تفكيك أركان "الدولة" العراقية السابقة -خاصة الجيش- بحجة أنها مؤسسات تخص صدام حسين، ولم يكن خافياً على أحد طبيعة ذلك الخطاب الذي قسّم العراقيين إلى أكراد وتركمان وآشوريين وسنة وشيعة، من دون أي ذكر للعرب، الذين يشكلون أغلبية الشعب العراقي، في مسعى مكشوف لنسف هوية العراق العربية الإسلامية، وتركه في مهب الريح، وهو الأمر الذي جعل منه ساحة للقتال القائم على أسس طائفية وعرقية لا تزال مستمرة حول اليوم، ومن جهة أخرى جعله موطناً لانطلاق التنظيمات الإسلامية الجهادية التي كانت نتيجة طبيعية للممارسة الناتجة من ذلك الخطاب، لكنها بالاتجاه الخاطئ والعنيف.
وقبل العراق، كان لبنان، الذي قام على أساس ميثاق 1943 الوطني بين بشارة الخوري ورياض الصلح، وهو اتفاق غير مكتوب لكنه شكّل صيغة لتقاسم الحكم في لبنان بين المسيحيين والمسلمين ولتحول دون إثارة النعرة الطائفيّة، حيث تم بموجبه اقتسام دوائر الحكم الثلاثة: الرئاسة بصلاحيات واسعة للمسيحيين الموارنة، ورئاسة الحكومة للمسلمين السنة، ورئاسة البرلمان للمسلمين الشيعة، وهي الصيغة التي استمرت إلى أن انفجرت الحرب الأهلية عام 1975، التي انتهت بموجب اتفاق الطائف عام 1990 الذي عدل من صيغة ذلك الميثاق وذلك بالتقليل من صلاحيات الرئيس لصالح رئيس الحكومة.
كان لظروف الحكم القائم على أساس "المكونات"، التي جعلت من الانتماء للطائفة أو الإثنية هما المجال الوحيد للانشغال والمشاركة بالشأن العام، الدور الأكبر في إفشال بناء الدولة من جهة، ومن جهة أخرى تحويل الديمقراطية المزعومة إلى إطار لتقاسم ونهب ثروات البلاد
في العراق، كان للسياسة الأميركية التي جعلت من مواجهة العرب السنة وإقصائهم تحت ذريعة علاقتهم مع صدام حسين، وصيغة الحكم القائم على "المكونات" دور كبير في فسح المجال لإيران للدخول والهيمنة على كثير من مفاصل الحياة العامة (تجارة وثقافة وسياسة وعسكرة)، وفي تعميق تلك الصدوع القائمة بين السنة والشيعة، وبالنهاية الهيمنة على مفاصل الحياة العامة في البلد وعزله بالكامل عن محيطه وإلحاقه بفلك السياسة الإيرانية عبر تحويله لممر آمن لمشاريعها وإيديولوجياتها نحو سوريا ولبنان.
أما في لبنان، فقد حافظت صيغة الميثاق على استقراره الهش لعام 1975، عندما اندلعت الحرب الأهلية نتيجة لاختلال التوازنات بين تلك "المكونات"، التي جعلت من لبنان ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية إلى أن استقر الأمر فيها لنظام الأسد، الذي جعل منها مرتعاً للفساد والمحسوبية، وساهم بشكل فعال مع إيران لاحقاً في الاستقطاب الطائفي الحاد من خلال دور حزب الله وتسليحه الذي أوكل له دور إقليمي في قمع ثورات الشعوب، ناهيك عن الهيمنة على لبنان ومسخ دور دولته ومؤسساته.
أدت التجربة في كلا البلدين، في لبنان من خلال ميثاق غير مكتوب أسس لحكم قائم على الانتماء الطائفي، وفي العراق أيضاً، من خلال الدستور البريمري، إلى تنمية الانقسامات غير السياسية القائمة على أساس مذهبي أو إثني، حيث تمكنت إيران تحديداً في كلا البلدين من خلال تلك الصيغة من الحكم من طمس هوية البلدين، وتذكية الانتماءات ما قبل الوطنية، وبالتالي ساهمت في التهميش الكبير لفئات محددة ناهيك عن البلاء العام الذي تلحقه بالبلاد نتيجة الفساد وغياب مبدأ المحاسبة "حرصاً" على الوحدة الوطنية الزائفة، وهو ما أدى في العراق إلى بروز حركات مثل داعش كتعبير عن الظلم الذي لحق بالعرب السنة، ومن ثم بحجة محاربتها تأسيس ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية التي تقوم بأدوار قمع للثورات في العراق وخارجه، وفي لبنان، تضخم دور حزب الله ليقوم بأدوار إقليمية لخدمة الطموحات الإيرانية، وخاصة في سوريا، حيث تشارك الميليشيات من العراق وحزب الله، وما تزال في قمع ثورتها، ناهيك عن دور تلك الميليشيات اليوم في قمع الثورات سواء في لبنان أو العراق.
إن ما جرى ويجري في الفترة الأخيرة في العراق من تحركات احتجاجية ضد نظام الحكم الطائفي الملحق بإيران، وما يجري اليوم في لبنان، الذي يهيمن عليه ولي الفقيه من خلال حزب الله، هو نتاج طبيعي للحكم القائم على المحاصصة بين "المكونات" الذي لم يجلب سوى الدمار والإفقار والتبعية لكلا البلدين، وتذكية الانقسامات الطائفية. فالاعتقاد بأن البديل عن الخطاب القومي هو الخطاب القائم على حقوق "المكونات" في ظروف الاستبداد القائمة، وفي ظل الصدوع التي تغذيها وتعتمد عليها أنظمة الاستبداد هو اعتقاد واهم، ولن يوصل في حال التمسك به سوى إلى دمار البلاد وارتهانها بالكامل. كما يدخل البلاد في أزمة هوية أو هويات لا سبيل للتفاهم فيما بينها سوى التقاتل.
يستحضر خطاب المكونات، بكونه خطابا رجعيا، جميع الإيديولوجيات العابرة للحدود سواء الإسلامية أو العلمانية، فرغم اعتماده على المفاهيم الحديثة من ديمقراطية وحقوق إنسان، إلا أنه يستنهض ويعتمد على الانتماءات ما قبل الوطنية، وخاصة الطوائف، وبالتالي يجعل من البلاد مجرد ساحة للتقاتل الإقليمي والدولي، وتجربة العراق ولبنان، وما ذاقه وخبره العراقيون واللبنانيون واضح جداً. وما نشهده اليوم في بيروت وبغداد من ثورات، ما هو إلا إرادة جدية بالخلاص من سلطة "المكونات" أولاً وتأسيس دولة القانون، لا دولة المحاصصة ثانياً، وأخيراً الخلاص مما استجلبه ذلك النظام من هيمنة إيرانية تغذي الإفساد وتقمع الشعوب وتطمس هويتها الوطنية وتلحقها بمشاريعها الإمبراطورية.
اليوم، ورغم كل الكارثة الناتجة من ذلك الشكل من الحكم، تروج روسيا بعناد للتاريخ والتجارب لذلك الخطاب في سوريا، ومعها بعض القوى والشخصيات السياسية كنموذج للحكم في سوريا، حكم قائم على تمثيل المكونات، وهو في حقيقته صيغة لحكم "الأقليات" الذي تلمّح لها روسيا ولا تمانعها الولايات المتحدة في مسعى لإدامة نظام القهر والاستعباد.