الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في لا وطنية الجيوش العربية

في لا وطنية الجيوش العربية

04.05.2019
ماهر مسعود



جيرون
الخميس 2/5/2019
لكي نفهم إلى أين يمضي الربيع العربي، لا بد من أن نضع في اعتبارنا ثلاث قوى تتصارع ضمن هذه المرحلة التاريخية التي سُميَت ربيعًا عربيًا. القوة الأولى هي قوة الشعب، والثانية هي الأنظمة، والحامل الأساس للأنظمة هو الجيش، والثالثة هي قوة العالم الخارجي. وهذه الأخيرة يجتمع فيها المختلفون، مهما اتسعت تناقضاتهم: روسيا وأميركا، تركيا وإيران، الصين وأوروبا، يجتمعون جميعًا على هدف واحد: دعم الأنظمة القديمة والقائمة، أو الجيوش التي تنقلب عليها وتحل محلها، لإعادة الاستقرار وفرضه بالقوة على الشعوب التي اختارت الثورة.
لنتحدث عن تلك القوى الثلاث بنوع من التفصيل قبل دمجها في إشكالية واحدة:
الشعب: قد يكون الشعب منقسمًا ومختلفًا، دينيًا أو اثنيًا أو طائفيًا، وقد يكون لكل فرد من أفراده أو مجموعة من مجموعاته، تصورات معينة عن شكل الدولة المُرادة، آمال ورغبات وطموحات مختلفة عن شكل الحياة والمستقبل المنتظر ضمن الدولة، وهذا طبيعي، لكن ما بات واضحًا منذ 2011، هو أن الشعوب لم تعد تريد الدكتاتوريات القائمة على رأس الدول، من المحيط إلى الخليج، وما بات واضحًا أيضًا هو أن رغبة الأغلبية العظمى في كل دولة هي إقامة النظام الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، حيث إن أصحاب المصلحة في بقاء الأنظمة القائمة ليسوا إلا القلّة المستفيدة وصاحبة الامتياز. وما نقصده بالقلّة ليس الأقلية أو الأقليات الدينية، فحتى في نظام أقلوي مثل النظام السوري، من يستفيد من بقاء السلطة الحاكمة هم القلّة ضمن الأقلية العلوية، والقلّة من المجتمع السوري بوجه عام. أما ما نراه من دعم ظاهر من قبل “الحواضن الشعبية” للنظام وللميليشيات المحلية “العلوية والسنيّة والكردية والدرزية وغيرها” فليس سوى محصلة للطرق الإجبارية التي وضعها العنف أمام الناس، ومحصلة للخوف والمخاوف التي عززتها حرب النظام على الشعب، وليس نتيجة لخيارات الناس الطبيعية، لو استطاعت الثورات إسقاط الأنظمة سلميًا، وما حصل في تونس أو ما يحصل في الجزائر والسودان، حتى الآن، ليس سوى الدليل الواضح على ذلك.
تتفق الشعوب إذًا على ما لا تريده، وهو بقاء الدكتاتورية، لكن مشكلتها الكبرى في عدم اتفاقها على كيفية تحقيق ما تريده. والانتقال من الحال السلبية “معرفة ما لا تريده” إلى الحال الإيجابية “صناعة ما تريده” ليس مسألة رغبات وخيالات وطموحات ومشاعر، بل هو صناعة عقد اجتماعي سياسي مختلف، يقطع مع العقد القديم القائم على التسلط ودولة الرعاية والامتياز واحتكار السلطة، ويقوم على الاعتراف والتنازل المتبادل ورعاية المصالح الذاتية والمشتركة بين الأفراد والفئات الاجتماعية والسياسية المتباينة.
إن بناء العقد الاجتماعي ليس مسألة ثورية، بل سياسية، وكل عقد يتم بناؤه على الشرعية الثورية هو عقد تسلطي لا يختلف إلا شكلًا عن العقد القديم الذي قامت ضده الثورات. كما إن كل عقد اجتماعي يتولى أمره الجيش، أي جيش، لن ينتج عنه سوى الانحطاط القديم ذاته.
الجيش: تقوم الوطنية الحديثة على حقوق الأفراد، ويُعرَّف الوطن بالمواطن وليس العكس، فلا قيمة لوطن لا يحصل فيه أفراده على حقوقهم السياسية والاجتماعية والمدنية، والأوطان التي ما زالت تُعلي قيمتها على قيمة مواطنيها هي زرائب ومداجن ومزارع وليست أوطانًا. ربما قامت الوطنية في عهود سابقة على علو قيمة الوطن على مواطنيه، وكان المبدأ الأساس للعقد الاجتماعي السياسي هو أن يضحي الفرد بنفسه وحياته وعائلته فداء للوطن، حتى لو لم يقدم ذلك الوطن أي حقوق أو خدمات لأفراده، وحتى لو كانوا عبيدًا فيه، فكرامة الأفراد لا معنى لها أمام كرامة الوطن!
الجيش هو المؤسسة الأصلب التي أورثها لنا عهد الاستقلال، والأنظمة العربية هي الابن الشرعي لتلك المؤسسة وانقلاباتها العسكرية، وهنا سنقول إن الجيوش العربية هي المؤسسات الأكثر لاوطنية قياسًا على المعنى الحديث للمواطنة، والأكثر دفاعًا عن المعنى القديم للوطن، باعتباره كيانًا مقدسًا يعلو فوق قيمة أفراده وحياتهم ورفاهيتهم وحاجاتهم.
اللاوطنية في الجيوش العربية لا تأتي فقط من قدامتها ومعاداتها لقيم المواطنة الحديثة، ولا لعدم فاعليتها أو قدرتها أو إرادتها في الدفاع عن الحدود الخارجية للوطن فحسب، ولا لأن جميع الحروب التي خاضتها الجيوش العربية ضد العدوان الخارجي منذ الاستقلال كانت خاسرة، في الوقت الذي لم تنتصر فيه إلا في الحروب ضد بعضها أولًا (عبد الناصر في اليمن، الأسد في لبنان، وصدام في الكويت) وضد شعوبها ثانيًا (العراق والجزائر مثالًا قبل الثورات، وسورية مثالًا كبيرًا بعدها)، ليست الجيوش العربية لاوطنية نتيجة لكل ما سبق فحسب، بل أيضًا والأهم، لأنها الأكثر سهولة في العمالة والتبعية والتعامل مع الخارج ضد المصالح الحقيقية للشعوب، فإذا عدنا لتاريخ الانقلابات منذ حسني الزعيم قديمًا، وصولًا إلى السيسي حديثًا، سنجد أنها جميعًا كانت بتزكية وتنسيق وتلزيم خارجي؛ أوروبي سابقًا، وأميركي فيما بعد.
إن فصل الجيش عن السياسة، هو النظير، إن لم يكن الأهم حتى، من فصل الدين عن السياسة، فقداسة الوطن التي حكم بها الجيش عبر تاريخه، لا تقلّ خبثًا ومكرًا وتلاعبًا عن قداسة الدين التي يستخدمها رجال الدين إما لتبرير الطغيان لإبقاء العبيد عبيدًا، أو لممارسة الطغيان ذاته، كما رأينا في الدولة الإسلامية ونظرائها الإسلاميين في سورية. وبالمعنى الحديث للكلمة لا يمكن لأي جيش أن يكون وطنيًا إلا تحت نظام حكم مدني منتخب ديمقراطيًا، وإلا عندما يفصل نفسه عن التدخل في السياسة، وذلك ينطبق على الدين الذي لا يمكن أن يصبح دينًا شعبيًا نظيفًا من أوحال السياسة إن لم يفصل نفسه عن وسخ الطغيان، تبريرًا له أو سيطرة من خلاله وعبر استخدامه سياسيًا.
تقوم بنية الجيوش في كل أنحاء العالم على الهرمية والأوامر العسكرية، وعندما تتولى المؤسسة العسكرية إدارة البلاد سياسيًا، تُعسكِر المجتمع، وهذا لا يعني أن يتحول المجتمع إلى مجتمع عسكري بالضرورة، بل يعني إن الإدارة السياسية لشؤون الناس ستصبح هرمية من الأعلى إلى الأسفل، واتخاذ القرارات سيصبح مراسيم وأوامر من الضابط (الرئيس، الملك، الحامي، الراشد) إلى الجنود (الناس، القُصّر، المجتمع المدني). وهذا يفسر مثلًا التعديلات الدستورية الجديدة في مصر، والتي هي نسخة عن الحالة السورية التي استمرت خلال العقود الخمسة الماضية، حيث إن الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، والأمين العام للحزب الحاكم. إلخ، باختصار هو رئيس جميع السلطات في الدولة والمجتمع، وبالمعنى الهيغلي، هو الحر الوحيد في دولة العبيد.
العالم الخارجي: يغرق المجتمع الدولي اليوم في الفوضى واللاقطبية، أكثر من أي وقت مضى في التاريخ، والأنظمة السياسية في الدول الديمقراطية والتوتاليتارية على حد سواء، تتفق على مسألة واحدة في ما يخص الربيع العربي، هي ضرورة لجمه وإعادته لحضن العسكر.
لعبت شروط كثيرة، لا مجال لتفصيلها هنا، في تحول المناخ الدولي خلال السنوات الثماني الماضية، إلى مناخ يميني، داعم للسياسات القومية والشعبوية حتى الفاشية والعنصرية، مناصر لمبدأ سيادة الدولة ضدًا على مبدأ الحماية الإنسانية وحق الشعوب بتقرير مصيرها، معاد للهجرة والمهاجرين ولا يكف عن رسم الحدود وبناء الأسوار وسنّ القوانين المناقضة لحقوق الإنسان ومواثيق الأمم المتحدة في أكبر ردّة نكوصية وانعزالية منذ الحرب العالمية الثانية.
يمكننا القول ببساطة: إن المناخ الدولي القائم، حاليًا، هو مناخ فاعل وفعّال في معاداته لحراك الشعوب في المنطقة العربية، وفاعل وفعّال في دعمه لحكم العسكر في المنطقة، فالاتحاد الأوروبي يغضّ الطرف أولًا عن فاشية السيسي الذي يهدد صراحة وضمنًا بالمصير السوري لشعبه إذا ثار ضده، وهذا يفزع أوروبا. ويدفع الملايين ثانيًا للميليشيات في ليبيا (ليس فقط من جهة البحر المتوسط، بل حتى من جهة الصحراء لمنع المهاجرين القادمين من تشاد والنيجر والدول الأفريقية الأخرى من الوصول لشواطئ أوروبا)، ويدفع الملايين ثالثًا لتركيا لمنع وصول المهاجرين عبر البحر.
أميركا الترامبية أوضح من أي وقت مضى في دعمها لكل فاشية تخدم مصالح “إسرائيل”، وليس آخرها تزكية ترامب للتعديلات الدستورية “السيسوية” في مصر.
الصين تضع نحو عشرين مليون مسلم تحت الإقامة الجبرية، وتضع الشعب الصيني كله تحت المراقبة المستمرة للذكاء الصناعي، وتدعم الأبد السوري وتستعيره لتجعل رئيسها هناك أبديًا على الطريقة السورية.
روسيا لا تكتفي باحتلال سورية، أو تنظيم سير الطائرات الإسرائيلية في الأجواء السورية، بل ترسل دعمها من فنزويلا إلى الجزائر للحفاظ على الفاشية والعسكر. تركيا تتحالف مع الشيطان ذاته في سبيل التخلص من أزمتها الكردية… الخ.
هذا المناخ الدولي الذي يبدو وكأنه ميل تاريخي حالي، يُصعّب المهمة الواقعة على عاتق شعوبنا التائقة للتغيير الديمقراطي. واستنادًا إلى مبدأ لاوطنية الجيوش العربية، وغرقها في الفساد، وخوف قياداتها من المحاسبة الشعبية، وقابليتها للتحالف مع الخارج ضد الداخل.. فإنه من غير المتوقع أن يكون الانتقال نحو الحكم الديمقراطي المدني سلسًا في الموجة الثانية للثورات العربية القائمة في الجزائر والسودان حاليًا.
يبدو طريق التحول الديمقراطي طويلًا أمام شعوب الربيع العربي، ولكن علينا أيضًا ألا ننسى أننا أولًا في عالم تحكمه الفوضى والتغيرات السريعة والمفاجئة، وثانيًا أننا أمام إرادة شعوب لم يعد ممكنًا إعادتها إلى القمقم وكمّ أفواهها على الطريقة القديمة. والسؤال الذي يبقى أخيرًا، ويعرف السوريون أكثر من غيرهم مدى قسوته، هو كم سيطول الزمن، وما هو الثمن الذي يجب دفعه قبل أن يزهر ذلك الربيع المغمّس بالدماء!