الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في ضرورة بقاء التوحّش

في ضرورة بقاء التوحّش

08.11.2018
حسان الأسود


سوريا تي في
الاربعاء 7/11/2018
لقد كان العنف دوماً وعلى مرّ التاريخ أحد أنماط الحياة البشرية، مارسه الإنسان كفعلٍ وكردّ فعلٍ على الطبيعة، ثمّ مارسه ضدّ ابن جلدته الإنسان. بعض الأشياء لا يمكن الحصول عليها إلّا بالعنف، فلا يمكن إقناع الخراف بضرورة الحصول على لحمها ولبنها بالحُسنى، كما لا يمكن إقناع الجبال بتقديم حجارتها طوعاً لاستخدامها في متطلبات الإنسان. تلازُمُ وجودِ الدماء لاستمرار البقاء، وتلازُمُ هدرِ الحيوات لاستمرار الحياة، كانا عاملين أساسيّين في تشكيل وعي الإنسان ولا وعيه على السواء. تكوّنت هذه العقليّة البشريّة عبر آلاف السنين وتطوّرت بحيث تصنّف عناصر الطبيعة وتوزّعها على خانات وفق قيمتها والحاجة إليها، وفي لحظات الصراع من أجل البقاء كان من الطبيعي تصنيف البشر لذواتهم ما بين قريب وبعيد، صديق وعدوّ، مشابه ومختلف، وهذا ما أدّى لاحقاً إلى "تشييء الإنسان أو حيونته" من أجل سهولة تصنيفه وبالتالي التعامل معه وفق المصلحة.
لقد كانت المصلحة باعتبارها شكلاً من أشكال الغريزة، سابقة على القيم والأخلاق والوعي في المجتمع البشري. لا يمكن تصوّر وجود قواعد تحكم علاقات الكائنات الحيّة خارج إطار غريزة البقاء، ولا ينتقص من قيمة هذه الحجّة أن هناك بعض السلوكيات أو الضوابط التي تحكم مجتمعات الكائنات الحيّة التي تعيش بشكل جماعي وبعض أشكال التنظيم والقيادة والعمل المشترك، فهذه نابعة من ضرورة بقاء النوع واستمراره وليست نابعة من رفاهية الاحتكام إلى قيمٍ عُليا وضوابط أخلاقيّة لضبط إيقاع الحياة.
رفاهية القيم والأخلاق وقواعد السلوك التي تطوّرت لتصبح قواعد قانونية ملزمة
رغم محاولات الإنسان تأطير هذا العنف وتأصيله ووضعه في قوالب أخلاقية وقانونية تضبطه، إلّا أنه يبقى جوهراً أصيلاً من جواهر الإنسان يعبّر عن نفسه بقوّة كلّما كانت الفرصة متاحة وكلّما كانت القوّة والسلطة وأوهام الحق والشرعية متوفرة لديه
عبر مسيرة البشرية، كانت ضرورة لاستمرار النوع أيضاً، ولكن لاستمراره بشكل جمعي لا فردي، أي لاستمراره بشكل واعٍ لضرورات وجوده بعكس الحيوانات التي بقيت ضرورة بقائها واستمرارها في حيّز الغريزة غير المُدركة.
من هذه الغريزة القابعة في جوهر الإنسان، ومن هذا الإدراك المتنامي لضرورة استمرار النوع عبر تصنيف الأشياء والكائنات، وُلدت وتنامت واستقرّت في ضمير البشرية الحاجة إلى العنف. ورغم محاولات الإنسان تأطير هذا العنف وتأصيله ووضعه في قوالب أخلاقية وقانونية تضبطه، إلّا أنه يبقى جوهراً أصيلاً من جواهر الإنسان يعبّر عن نفسه بقوّة كلّما كانت الفرصة متاحة وكلّما كانت القوّة والسلطة وأوهام الحق والشرعية متوفرة لديه.
تشذيب العنف من خلال قوننته على مستوى علاقة الأفراد ببعضهم ثمّ علاقة المجتمع - ممثّلاً بالدولة - بالأفراد وعلى مستوى علاقات الدول ببعضها، كان يهدف إلى أنسنة هذا العنف ليصبح أكثر مقبوليّة ضمن سياق التطوّر البشري. لكنّ مسارات تطوّر المجتمعات البشرية لم تكن متوازية ولا متساوقة عبر التاريخ، فكان هناك دوماً تفاوت في معدّلات النموّ السكاني بسبب التفاوت في الموارد الطبيعية من جهة وبسبب الظروف المحيطة بكل مجتمع من جهة ثانية. لقد كانت عوامل الإنتاج أساسيّة، لكنها لم تكن الوحيدة التي رسمت أشكال تطوّر المجتمعات المختلفة. لعبَ الموقعُ الجغرافي دوراً هاماً من حيث احتكاك الأقوام المتجاورة ببعضها وتأثّر حضارات المجتمعات البشرية المتجاورة وتلاقحها في دورة الطبيعة والحضارة. وكان للأديان دور هام في صياغة علاقات البشر ببعضهم سواءٌ أكان على مستوى جمعي أم فردي.
بسبب حاجة الإنسان لتفسير ومن ثم لتبرير وقبول هذا التفاوت والاختلاف بين البشر، وبالتالي تبرير وقبول العنف في العلاقات البينيّة على مستوى الجماعات والأفراد، كان لا بدّ من ترحيل مسألة العدالة المطلقة إلى الزمن المؤجّل، إلى المطلق الغائب. هنا كان دور الفلسفة والدين كحاملين أساسيّين لفكرة التأجيل هذه، فلا بدّ من تكييف العقل البشري على قبول والتعايش مع انعدام العدل في الحياة الدنيا، ومن هنا جاء القبول الفطري بفكرة الحياة الآخرة كعامل توازن لاستمرار النوع الاجتماعي البشري.
كان الاحتكام إلى العنف متناسباً عكساً مع مستويات التطور، ومع مستويات قبول الآخر، ومع مستويات فهم الحاجة للآخر والقناعة بضرورة وجوده والتشارك معه، حتّى بات التفاوت في الاحتكام إلى العنف بين المجتمعات أحد مقاييس التحضّر والانتقال إلى درجات أرقى في سلّم التطوّر البشري.
من هنا نجد أنّ البشرية حاولت أن تقونن هذا العنف على أعلى مستوى يمكن الوصول إليه، وحصل هذا من خلال ميثاق الأمم المتحدة الذي نشأ من إرادة الدول المتعاقدة في سان فرانسيسكو عام 1945 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة والذي نصّ في ديباجته على:
((نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا:
أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي جلبت خلال جيل واحد على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف،
وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية،
وأن نبيّن الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي،
وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح.
وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا:
أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار،
وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي،
وأن نكفل بقبولنا مبادئ معيّنة ورسم الخطط اللازمة لها ألاّ تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة
وأن نستخدم الأداة الدولية في ترقية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها،
قد قررّنا أن نوحّد جهودنا لتحقيق هذه الأغراض:
ولهذا فإن حكوماتنا المختلفة على يد مندوبيها المجتمعين في مدينة سان فرانسيسكو الذين قدّموا وثائق التفويض المستوفية للشرائط، قد ارتضت ميثاق الأمم المتحدة هذا، وأنشأت بمقتضاه هيئة دولية تُسمّى "الأمم المتحدة".))
لكن يبقى مدى التزام الحكومات والأفراد بهذا الميثاق رهناً بمدى تمثّلهم لقيمه ومبادئه السامية من جهة، ولمدى وجود ضوابط عليا تحكم سلوكياتهم وتصرفاتهم من جهة ثانية، مع الإدراك المتنامي أنّ كلّ هذا لم يعُد ذا قيمة تُذكر منذ مدّة طويلة، فشعارات حقوق الإنسان ليست أكثر من بطاقات متدرّجة الألوان ترفعها حكومات الدول الديمقراطية في وجه حكومات الأنظمة الديكتاتورية لتبرير بعض المواقف ولخدمة بعض المصالح وقت الحاجة.
 لقد بدأت بوادر انهيار هذا النظام العالمي تتوضّح منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وما زالت في تصاعد مستمر، لم يعد العالم قائماً على توازن الرعب النووي، بل صار يعيش الرعب بشكل فعلي، منذ أن بدأ يتبلور مفهوم الإرهاب كرافعة للعنف المبرّر ضدّ أي حركة تحرر وطنيّة خاصّة بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر عام 2001، وضدّ أي حراك مدني سلمي داخلي في أي بلد محكوم بالدكتاتورية، بدءا من احتجاجات ساحة "تيان آن من" في بكين وانتهاءً بوقفات التضامن مع المحامي ياسر السلم المغيّب في سجون هيئة تحرير الشام "هتش" في إدلب. ها هو العنف ينفلت لجامُه عاماً بعد عام وتزداد حدّته أكثر فأكثر بشكل غير مسبوق في العلاقات الدولية وبين الحكومات وشعوبها، والأمثلة على ذلك كثيرة بدءًا من احتلال أفغانستان والعراق وانتهاءً بالحرب في اليمن، وبدءا من ربيع براغ وانتهاءً بالربيع العربي.
من هنا تأتي ضرورة بقاء الأسد كرمز لهذا التوحّش الغريزي المجنون، بحيث يصبح مقياساً
لا يمكن فهم تقاعس النظام العالمي عن إيقاف سفّاح العصر إلّا بحاجة هذا النظام إلى مثال جديد بعد الهولوكوست النازي، فحتّى نبرّر يهوديّة دولة إسرائيل التي يتمّ العمل عليها بجديّة ومثابرة وصبر منذ أمد طويل، لا بدّ من السماح بالتهجير القسري لفئات محدّدة من أهل سوريا
للعنف العاري وميزاناً لما يمكن أن يحصل بعده على مستوى البشرية جمعاء وليس على مستوى المنطقة فحسب. يجب أن يبقى الأسدُ بشخصه وبما يمثّله من قيمة حقيقية ومثال واقعي، كرابط حقيقي لحبّات عِقد العنف الهمجي التي يجب أن تبقى متواصلة بخيط واحد لا ينفرط.
لا يمكن فهم تقاعس النظام العالمي عن إيقاف سفّاح العصر إلّا بحاجة هذا النظام إلى مثال جديد بعد الهولوكوست النازي، فحتّى نبرّر يهوديّة دولة إسرائيل التي يتمّ العمل عليها بجديّة ومثابرة وصبر منذ أمد طويل، لا بدّ من السماح بالتهجير القسري لفئات محدّدة من أهل سوريا. كي نقبل بمجزرة رابعة العدوية ومجازر سيناء وبأحكام الإعدام بالجملة في مصر السيسي، يجب أن تبقى مجازر حلب ودير الزور والغوطة وأحكام محكمة الإرهاب في دمشق. كي نقبل باختفاء الصحفي جمال الخاشقجي يجب أن يبقى مصير مئات آلاف السوريين في أقبية مخابرات الأسد مجهولاً. كي يتحمّل ضمير العالم مأساة أقليّة الروهينغيا في ميانمار يجب أن يكون هناك مأساة أكبر وجرح غائر أعمق يؤرقه ويدميه كجرح سوريا.
 بقاء نظام الأسد ضرورة دولية وإقليميّة لتبرير العنف المستشري في العالم وفي المنطقة على السواء، إنّه المرحلة الانتقالية بين نظامين عالميين، أحدهما شارف على الموت وثانيهما يخرج من رحم الأول بكلّ آلام مخاض الولادة العسيرة. سيكون على البشريّة أن تتحمّل أوزاراً جديدة ومرعبة في قادم الأعوام، فالفصول الواقعيّة للحياة ترسمها القوّة لا الحق، ترسمها المصالح لا القيم، يرسمها العنفُ لا العقل، يرسمها صوت الرصاص لا صوت الموسيقى.