الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في سورية كنّا عايشين

في سورية كنّا عايشين

17.09.2018
خطيب بدلة


العربي الجديد
الاحد 16/9/2018
"كنّا عايشين". عبارة يتداولُها الناس الذين يمتلكون إحساساً بأن النظام السوري  لم يكن ليُقْدِمَ على تدمير سورية، وقتل مليون إنسان، وتهجير نصف السكان، وتسليم ثلاثة أرباع البلاد للأجانب، لولا الثورة. يعني الثورة هي المسؤولة عن هذا كله! وقد كان ممكنا، برأيهم، تلافي الثورة، والإبقاء على الحكم الوراثي الذي هَنْدَسَهُ حافظ الأسد إلى ما شاء الله، لأننا، خلال ثلاثين سنة من حكم الأسد الأب، وإحدى عشر سنة من حكم الابن، كنّا عايشين.. واسم الله علينا.
وزادنا الإخوةُ المحايدون الذين يعيشون في ما تسمّى "مناطق المعارضة" مِنَ القصيد بيتاً، فقالوا إننا كنا ننعم، قبل الثورة، بحكم القانون، بينما السائدُ الآن هو المحاكم الشرعية التي يترأسها قضاةٌ جَهَلة. وهذا صحيحٌ من حيث المبدأ، ففي سورية، حقيقةً، قوانين "وضعية" محترمة، يعود بعضها إلى أيام الفرنسيين، وبعضها الآخر إلى فترة الاستقلال الرائعة التي انطلق فيها المجتمع السوري بكامل طاقاته نحو العُلا، قبل أن تبدأ مطارقُ الاستبداد بالنزول على يافوخه ابتداء من الوحدة مع مصر (1958).. ومنذ صبيحة الثامن من مارس/ آذار 1963، بدأت القوانين الإستثنائية والأحكام العرفية تفعل فعلها في تعطيل القوانين التي اكتسبها الشعبُ أيام الاستقلال.. وجاءت الأيام السوداء الفاحمة، في أواخر سنة 1970، فحافظ الأسد، لكي يضمن تأبيد حكمه، أطلق أيدي الموالين له في المجتمع السوري، أَن اسرقوا، وانهبوا، واجمعوا ما شئتم من الثروات، ولكن ضمن معادلةٍ بالغة الشدة والانضباط، أن تتركوا القانون ساريَ المفعول، ثم تدبروا أمركم في اختراع الأحابيل والثغرات التي تمكّنكم من مخالفته واختراقه.
لن أحكي لكم، الآن، عن السوريين الذين أجبرهم حافظُ على إضاعة أعمارهم في السجون والمعتقلات، من دون محاكمات، أو بموجب محاكماتٍ صورية.. ولكن دعونا نأخذ مثالاً ذا صلة بالأمور القانونية البحتة. كان حافظ يطبّق على الشعب السوري سياسة "شد الأحزمة على البطون"، ولأجل تحقيق هذه السياسة كان يُصدر القوانين، أو بالأصح يأمر أعضاء مجلس الشعب بإصدار القوانين التي تمنع استيراد أية سلعةٍ تنتمي إلى فصيلة "الرفاهية"، وفي مقدّمتها السيارات الخاصة، لكنه، في سنة 1993، أرخى يده قليلاً، وأصدر قانوناً يسمح باستيراد بعض السلع، منها الآليات الزراعية التي تلزم للإخوة الفلاحين، باعتباره راعي العمال والفلاحين والحرفيين، ومن تلك الآليات التي سَمح باستيرادها البيك أب (الوانيت).
دفعت هذه الثغرة الصغيرة في جدار "الأحزمة والبطون" أناساً كثيرين لشراء هذه البيك أبّات. ومن هنا، بدأت الحكاية، كما يقول الرواة، تحلو، وتمتع.. جمالُها يأتي من أن معظم الفلاحين، وقد أفقرهم نظام الأسد، ما كانوا يمتلكون المال لشراء هذه البيك أبّات. أما أبناء الطبقة الوسطى من الموظفين والعاملين في الصناعة والتجارة والمهن الحرّة فيتوفر لديهم ما يكفي للشراء، فكانوا يشترونها بالفعل، ويذهبون لتسجيلها في مديريات النقل. وكان هذا يتطّلب من المشتري (لكي يكون عملُه قانونياً) أن يثبت أنه مالك أو مستأجر مساحة زراعية معينة، أو أنه يملك عشرين خلية نحل، أو عشر بقراتٍ حلوباتٍ، مثلاً.
نشطت، في هاتيك الأيام، المكاتب العقارية الزراعية، وازداد الطلب على استئجار الأراضي الصالحة للزراعة، وخلايا النحل، والأغنام، والأبقار. ولكن مشكلةً كبيرة اعترضت هؤلاء المتحايلين على القانون، وهي أنَّ الأراضي الزراعية المتوفرة مساحتها محدودة، وعدد الحيوانات التي يمكن بيعها أو تأجيرها محدود، لكنهم لا يمكن أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام مشكلةٍ كهذه، فأصبح مالك الأرض يؤجرها لأكثر من شخص، ومالك الأبقار يتعاقد على بيعها مع عدد من الناس. وهكذا حتى أصبحت المساحات الزراعية المسجّلة في قيود الدوائر العقارية السورية أكبر من مساحة السعودية مع الربع الخالي، وفيها أبقارٌ أكثر من كل أبقار الوطن العربي!